في الأيام الماضية توفي رجلان من أعلام مصر، الأول هو الدكتور جابر قميحة الأديب الكبير والأستاذ الجامعي المعروف، والآخر هو الدكتور ميلاد حنا السياسي اليساري والأستاذ الجامعي أيضًا، رحيل الأول لم يلفت نظر وزارة الثقافة المصرية ولا الحياة الثقافية الراهنة، أما رحيل الآخر فقد أقام الدنيا ولم يقعدها على النحو الذي سأشير إليه بعد قليل. والسبب في هذه المفارقة أن الأول ينتمي إلى التيار الإسلامي، وهو تيار محظور لدى الحياة الثقافية التي يهيمن عليها التيار اليساري المتطرف الذي لا يؤمن بالآخر ولا يقبل بالتعايش معه ولو كان هذا الآخر يمثل تيار الأغلبية الساحقة في الوطن. جابر قميحة رجل قضى ما يقرب من ستين عامًا في الحياة العامة يقرأ ويكتب ويدرس ويؤلف ويحاضر ويدافع عن الإسلام والمظلومين ويبذل جهده ما استطاع في خدمة الوطن، دون مساندة من السلطة أو ترحيب منها بل كان مع أمثاله من المنتمين إلى التيار الإسلامي من المهمشين بل من الذين تم إقصاؤهم واستئصالهم من الواقع الأدبي والفكري، ومع ذلك استمروا يجالدون الحصار والحرمان، ثم إنه لم يحظ بجائزة أو تقدير رسمي من الدولة أو السلطة التي تهيمن على الحياة الثقافية. في المقابل، فقد كان ميلاد حنا وهو المهندس المعماري محل تقدير من السلطة الثقافية، وكان المجال أمامه مفتوحًا ليعبر في كبريات الصحف والدوريات، ويدعى للمشاركة عبر المؤسسة الثقافية الرسمية بلا قيود ولا سدود، مع ملاحظة أنه كان منحازًا إلى طائفته في تعصب واضح ضد ثقافة الأغلبية الساحقة التي تحكم ثقافة المواطنين جميعًا بالعقيدة أو الحضارة. قالت لي صحفية أرادت عمل تحقيق صحفي حول جابر قميحة بمناسبة رحيله في إحدى الصحف الخاصة، إنها اتصلت بأديب يساري شبه معروف لتستطلع رأيه حول الرجل ومآثره، فرد عليها بطريقة عنيفة غاضبة ملخصها أنه لا يحب أن يتكلم عن شخص رجعي! علينا الآن أن ننظر ماذا فعلت الحياة الثقافية لميلاد حنا اليساري المتعصب، ولم تفعله لجابر قميحة الذي مد يده إلى جميع الناس.. مولانا وزير الثقافة نعى ميلاد حنا ووصفه بالمفكر والسياسي الكبير، وقال: أعتقد أننا فقدنا قامة مصرية وطنية كبيرة وهو أحد البنائين الكبار ليس فى مجال تخصصه مهندسًا وأستاذًا جامعيًا فقط، بل كان سياسيًا ومفكرًا كبيرًا، ومشاركًا فى كل الشأن الوطني. أحد الكتاب الموالين لوزارة الثقافة دعا إلى تكريم اسم المفكر الراحل، والحفاوة بإنجازاته، وعقد ندوة خاصة لتأبينه بما يليق به، وإحياء ذكراه خاصة لدى الأجيال الشابة التي لم تعرف نضاله الوطني والفكري والثقافي. كما طالب بإعادة طبع كتبه خاصة كتابه الأخير عن حق الاختلاف وقبول الآخر! لأنه يستجيب لحاجة ملحة تسهم فى تعميق ثقافة الديمقراطية التي نحتاجها اليوم!! رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، سارع بأنه سوف يبحث خلال اجتماع مجلس إدارة الهيئة شراء حقوق الملكية الفكرية لإعادة طباعة أعمال المفكر الكبير الراحل ميلاد حنا بوصفها ضرورة ملحة فى الظروف الحالية التي تعيشها مصر، ثم دعا وزير التربية والتعليم أن يكون كتاب "الأعمدة السبعة لفهم الشخصية المصرية" ضمن المقررات على الطلاب لما له من أهمية قصوى حول طبيعة الشعب المصري، حيث يؤكد الكتاب أن مصر لن تقوم أو تتقدم إلا بالحوار المجتمعي بين كل أطياف الشعب، لا بتيار واحد بعينه! أما منير فخري عبد النور، وزير السياحة الأسبق، فقد انتقد تجاهل رئاسة الجمهورية، وعدم إرسالها لمن يمثلها لحضور تشييع جثمان الراحل، أحد أعمدة مدرسة الحركة الوطنية فى مصر، وقال "عبد النور" ساخرًا من الرئيس: "خلى الرئاسة فى اللي فيها وجودها زى عدمه". وإذا كان عبد النور يسخر من الرئيس، فإن شيوعيًا من خدام نظام مبارك ذهب إلى أبعد من ذلك وتطاول على مقام الرئاسة واصفًا إياها بأنها لا تستحق شرف حضور جنازته، ثم زعم العميل الشيوعي المعادي للإسلام والمسلمين بأن الراحل رمز من رموز الوحدة الوطنية ومصر، وكل القوى الوطنية افتقدته، فهو لم يكن مجرد عالم فى الفلسفة (كذا!)، لكنه كان قائدًا سياسيًا دافع عن الوحدة الوطنية بجسارة!. وانتقد الشيوعي القبيح، تجاهل رئاسة الجمهورية لجنازة الراحل، وعدم إرسالها لمن يمثلها لحضور التشييع لجثمان أحد أعمدة مدرسة الحركة الوطنية فى مصر – كما يصفه – ثم أردف الشيوعي القبيح قائلا: "لا تستحق الرئاسة أن تنال شرف حضور جنازته". ولم يقتصر الأمر على الشيوعيين المحليين وأشباههم، ولكن انضمت إليهم السيدة إيرينا بوكوفا المديرة العامة لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" (وهي شيوعية بلغارية)؛ فقد وصفت الراحل بأنه "رمز للحوار بين الثقافات". وأضافت المسئولة الأممية قائلة: إن الراحل كان "الضمير الإنساني في مصر متعددة الثقافات، والمتوحدة في التنوع وكل مكوناته"، مشيرة إلى أن المفكر الراحل قد وضع ثقافته الهائلة في خدمة الحوار بين المسلمين والأقباط في مصر، وكشف عن شدة العلاقة بينهما طوال ما يزيد عن ثلاثة عشر قرنًا من الزمان. لست رافضًا أن يقوم الشيوعيون وغيرهم وخاصة من ينتمون إلى الحظيرة الثقافية، بالنواح على الراحل ميلاد حنا مهما كانت سلبياته الفكرية، وتعصبه ضد الأغلبية من بني قومه، وإعلانه ذات يوم أنه سيغادر مصر لو فاز الإسلاميون في الانتخابات، ولكن الذي أرفضه أن يعامل المسلم بوصفه هنديًا أحمر، وأن يكون في حياته معتمًا عليه مهمشًا، بل مُقصى من أندية القوم، بل مستأصلاً، فلا يُقدّر ولا يُدعى للمشاركة ولا يُطبع له كتاب، ولا يُحسب بين العاملين على خدمة الكلمة وشرفها، ولكن ما إن يرحل شيوعي حظائري أو غير حظائري أو طائفي متعصب أو كاره للإسلام بصفة عامة إلا ويجد من الحظيرة والآلة الإعلامية الثقافية والوزارة القائمة دعاية صاخبة تتناول مناقبه ومآثره ولو كانت مدّعاة، أما المسلم فلا يحفل به أحد بل تتم إهالة التراب عليه! هل هذا قبول للآخر؟