لعل الأزمة التى فجرها الإعلان الدستورى الصادر بتاريخ 21 نوفمبر 2012 بالتعدى على السلطة القضائية توجب علينا ضرورة الرجوع للتاريخ، لنتبين ما إذا كانت الاعتداءات الحادثة الآن هى الأولى من نوعها؟ أم هى المثال الفج والاعتداء الأضخم عبر تاريخ القضاء المصرى؟ والإجابة على هذا السؤال تقتضى عشرات المقالات والكتب، غير أن اختزال المسألة فى مقال تجعلنا نركز على الفكرة أكثر من التركيز على النماذج والأمثلة. وبما أن القضاء أحد الأعمدة الرئيسية لقيام الدولة واستمرارها وقوتها، هو أيضًا الميزان الذى يضمن العدالة للشعوب من جور السلطة إذا تغولت عليهم. فهو الذى يجبر الحكام والمحكومين على الالتزام بالشرعية والخضوع للقانون العام الذى ارتضته الدولة لنفسها. وتاريخ القضاء فى مصر هو تاريخ قديم قدم الدولة المصرية من أيام الفراعنة وحتى الآن. ورغم أن الدول والإمبراطوريات والأنظمة تغيرت على مصر، وتدخلت بالطبع فى تغيير وتبديل أنظمتها القضائية، إلا أن النظام القضائى الإسلامى أصبح راسخًا منذ الفتح العربى لها. فقد توطد فيها نظام قضائى إسلامى متكامل، بما يمكن وصفه بأنه صفحة ناصعة من صفحات تاريخها عبر العصور. ولعل صورة القضاء المصرى فى العصر العثمانى فى الفترة الحديثة، باعتباره يعبر عن شكل مختلف عما حدث فى عصر أسرة محمد على فيما بعد، يقطع بأن السلطة القضائية كانت مستقلة تمامًا عن سلطة الحكومات العثمانية طيلة هذا العصر. ومن المؤكد أن النظم القضائية المختلفة التى أحدثتها أسرة محمد على، باستكمال نظارة الحقانية سنة 1878 حتى قيام ثورة يوليو 1952، قد أحدثت تعديات من جانب السلطة على القضاء، بصورة يصعب حصرها فى هذا المقام. ولعل استئثار الإنجليز، منذ إنشائهم للمحاكم الأهلية سنة 1884 وحتى معاهدة 1936، على منصب المستشار القضائى ومنصب النائب العام، وتدخلاتهم فى الأحكام، بجانب وجود أنظمة قضائية خاصة بهم كالمحاكم القنصلية والمختلطة، يؤكد أن النظام القضائى المصرى قد تعرض فى تلك الفترة لأكبر قدر من التعديات والانتهاكات بتوجيه من السلطة الحاكمة. وإذا ركزنا على تعامل ثورة يوليو مع القضاء، لوجدنا أن هناك عشرات الانتهاكات والتعديات من جانب السلطة الثورية على القضاة. بل إن ما يتشابه ما فعلته تلك السلطة مع الإعلان الدستورى الأخير، من إعادة للمحاكمات، يختلف شكلًا وموضوعًا عما حدث خلال محاكمات الثورة. فما قضى به إعلان مرسى أن تتم الإعادة فى إطار القضاء القائم، وفى حالة ظهور أدلة جديدة. فى حين تشكلت محاكمات ثورة يوليو على يد عسكريين، بقيادة عبداللطيف البغدادى وأنور السادات وحسن إبراهيم ومحمد التابعى، ولم يكن بينهم مدنى واحد، اللهم مصطفى الهلباوى الذى كان وكيلًا للنائب العام. ولعل الاستشهاد ببعض النماذج خلال فترة الثورة هو أمر مهم، لاستعادة الطريقة التى تمت بها تلك الاعتداءات. وربما كانت حادثة التعدى بالضرب على الفقيه الدستورى الدكتور عبدالرازق السنهورى رئيس مجلس الدولة، سنة 1954، بتوجيه مظاهرة بقيادة طعيمة والطحاوى، من قيادات هيئة التحرير، للإحاطة بمجلس الدولة ثم ضربه داخل مكتبه يشير للطريقة الجديدة والمبتدعة فى التعامل مع القضاة. وتجلى هذا الانتهاك الفاضح الذى تعرض له الرجل، عندما انحاز السنهورى فى أزمة 54 لمحمد نجيب، فانقلب عليه عبدالناصر ومجموعته، مستهدفين إياه. غير أن رفض السنهورى لمقابلة عبدالناصر حينما ذهب إليه فى منزله لتطييب خاطره، ولإظهار عدم علاقته بالاعتداء، جعل القاضى ينتصر فى النهاية على الرئيس. فرفض اللقاء فى ذاته جاء بمثابة رد الاعتبار للقضاء المصرى وكرامته من تعديات السلطة على رمز من رموزه. وربما كانت الانتهاكات القضائية فى عهد عبدالناصر تتضح أكثر بروزًا فى مذبحة القضاة فى 31 أغسطس 1969. فنظرًا لطبيعة عبدالناصر، واعتياده لطريقة خلق التنظيمات السرية داخل المؤسسات الحكومية، أراد أن يشكل تنظيمًا سريًا مواليًا للسلطة داخل القضاء. غير أن فشل وزير العدل عصام حسونة فى هذا الأمر، جعله يكلف محمد أبونصير لينصحه الأخير بأن يستعين بوزرائه وأقربائهم من القضاة لخلق هذا التنظيم، فتم له ما أراد. إلا أن فشل قائمة التنظيم الطليعى فى انتخابات نادى القضاة سنة 1969، بفوز قائمة التيار الاستقلالى بقيادة المستشار يحيى الرفاعى، جعل هذه القائمة مستهدفة بكاملها، فحدث ما حدث. حيث تم عزل كل القضاة دفعة واحدة، وأعاد تعيينهم من جديد بعد عزل 200 قاضٍ. لدرجة أن زوجة أحد القضاة، وكانت ألمانية الجنسية، اتهمت زوجها بالكذب والخديعة بانتحاله وظيفة القاضى. فهى لم تصدق أن هناك سلطة ما، يمكنها أن تعزل أى قاضٍ، صغر أم كبر، كما هو الحال فى بلدها، ألمانيا. وهذا الانتهاك الصريح لسلطة القضاء فى عهد عبدالناصر يعد هو المثال الأبرز خلال فترة تاريخ مصر الحديث والمعاصر. ورغم إهدار أحكام مجلس الدولة، وقرارات محكمة النقض، فى عهد الرئيس السابق مبارك، بشأن بطلان إجراءات الترشيح والانتخاب فى عشرات الآلاف فى القضايا الانتخابية، وانتشار مقولة المجلس سيد قراره، إلا أن الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس محمد مرسى سيظل هو الانتهاك الفج عبر التاريخ المصرى على مر العصور. بل إن عدم استشارة مجلس القضاء فى هذا الإعلان، واعتراف وزير العدل بصياغته السيئة فى أمور تتعلق بالقضاء، سواء فى إعادة المحاكمات، أو تعيين منصب النائب العام، أو تحصين القرارات، وتفسير الرئيس بأن القضاة لا دخل له بالمسألة، وأنهم يحكمون بما يشرع لهم ولا يشرعون لأنفسهم، هو الذى دفع نادى القضاة لأن يتخذ قراراته الأحد 25 نوفمبر 2012 بمواجهة هذا الاعتداء السافر على السلطة القضائية. وهو الأمر الذى دفع لتعليق غالبية المحاكم لأعمالها فى سابقة تعد الأولى عبر تاريخها. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.