المشتغل في العمل الشعبي والمجتمعي كمن يمارس اللعب مع الملايين، فإما أن يكسب ودَّهم وتأييدهم، وإما أن يخسر، فتضحك منه وعليه الملايين، ولهذا اللعب قواعد. تقول قواعد اللعبة: "إن عجزت عن التعامل مع الملايين فأمامك خيارات ثلاثة، الاختيار من متعدد، أو مساعدة الجماهير، وأخيرًا الاستعانة بصديق". مبارك لم ير في البرادعي سوى الرجل الغامض بسلامته، الذي أرسلته أمريكا لتمثيل دور المنقذ لأهل مصر من الضلال (مبارك)، ولأن "مبارك" نفسه كان مبعوثًا أمريكيًّا بامتياز، فأحس وتحسس وأحيانًا تجسس خبر البرادعي، فحاول أن يزيحه عن المشهد السياسي المصري، فبدأ بحملات منظمة على الرجل تارة بالكفر والإلحاد، وأخرى بالمايوه وغيرها، فأفلح مبارك في ذلك على المدى القصير، ولكن بسذاجة كثير من المعارضة الكرتونية الزائفة التي صنعها مبارك، التف الكثيرون حول البرادعي، ونقلوا عنه كلمات تكاد تبلغ به مقام الحكماء. وطالعتنا وسائل الإعلام المندفعة والمدفوعة بالكثير عن الرجل الغامض الآتي على جثث أبناء العراق وعلى قضايا وطنه. وجاءت ثورة يناير، فنسب هؤلاء وأولئك إلى الرجل أنه قبس هذه الثورة ومشعل جذوتها بل ابن بجدتها، هكذا صوره الإعلام وسوَّقه، ولأن الرجل تحوطه عناية إعلامية خاصة، ارتفعت أسهمه في يانصيب المعارضة المصرية؛ ومرَّ زمن ليس بالقصير في عمر الأمة المصرية، بل طويل على النفس وعلى الناس، اليوم الواحد فيه بسنة، وصاحبهم البرادعي لا يعلو له صوت إلا في إعاقة أي توجه نحو الاتفاق. وجاء الاختبار الحقيقي الذي عجز البرادعي وأعجزه، وهو ذلكم الإعلان الدستوري للرئيس مرسي، فتحير البرادعي في إجابته، واستعان الجمهور وإذا بالنتيجة لا تسعفه، فلجأ إلى الاختيار من متعدد، هل يستعين الإسلاميين، أم يغازل الفلول وبعض الظواهر الصوتية، ففعل مع الفلول، ولم يفلح، فلجأ إلى الخيار الأخير، وهو الاستعانة بالصديق، ولأن الصديق وقت الضيق، فلم يجده في بني وطنه، بل وجده في أمريكا والاتحاد الأوروبي وألمانيا، فهم أولاء الذين اعتنوا به ورفَّعوه ونوبلوه (أعطوه جائزة نوبل). لم يدرك البرادعي أن أمريكا والغرب لا يعنيهم كثيرًا نظرية المؤامرة، بل يفهمون نظرية المصلحة، وغاب عنه أنهم هم الذين صنعوا الصنم (البرادعي) وهم الذين يحطمونه، وأنهم أيضا من صنعوا الهولوكوست، ومتى أرادوا هجروها!. راح البرادعي يهذي بكلمات لم تكن تنتظر من "قامة حكيمة" مثله، ولكن التجارب تكشف عن معادن "الرجال" وتفضح بواطن النفوس. أخفق البرادعي في اللعب مع الملايين، وصدق ما كان ينتاب الإسلاميين وغيرهم من الناس (من غير النخبة طبعًا) من تحفظات حول الرجل الغامض بسلامته. ولأن البرادعي "رجل المبادئ والمواقف" لا مشكلة لديه أن يجلس إلى الإسرائيليين، ولكن المعضلة الكبرى أن يجلس إلى مرسي للحوار حول الإعلان الدستوري! يا سلام على الوطنية!. ولا عزاء للساسة أو المعارضة أو النخبة. حكمة البرادعي الأخيرة: الإسلاميون والعوام والبسطاء يقرؤون الكف! [email protected] أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]