لم يكن هناك مبرر عسكري للاجتياح الإسرائيلي الأخير لغزة، بمعنى أنه لم يكن هناك أي متغيرٍ على الأرض يدعو إسرائيل لارتكاب هذه الحماقة، والذى يحيرك أكثر أن ترى إسرائيل تحشد قدرًا كبيرًا من القوات البرية استعدادًا للغزو البري المزعوم وتعلن التعبئة العامة لأضعاف هذا العدد مما يكلفها مئات الملايين من الدولارات، ومع ذلك كنا نعلم جميعًا أن هذا الغزو البري لن يحدث أبدًا، وأن الأمر برمته سينتهي خلال أيام وهو ما حدث بالفعل، فما الذي كانت تقصده إسرائيل من هذه المغامرة العسكرية؟ في تقديري أن المتغير الوحيد حولنا هو المتغير السياسي وليس المتغير العسكري، فقد كانت هناك تساؤلات كثيرة في إسرائيل تحتاج إلى إجابات شافية، ذلك أن ثورات الربيع العربي قد أحدثت الكثير من المتغيرات في المنطقة بحيث أصبحت ردود الأفعال المحتملة من الأنظمة العربية الجديدة وبخاصة في مصر غير متوقعة بشكل واضح وجيد لدى إسرائيل بالشكل الذي يمكن أن تبنى عليه حساباتها في المستقبل، كذلك الموقف الإيراني المستجد عالي الصوت في أوقات السلم وما عسى أن يكون عليه الحال إذا نشبت حرب بالفعل، فضلًا عن ذلك، الموقف التركي الداعم بشدة لدول الربيع العربي وخاصة مصر في المعركة الاقتصادية، فما هو الحال عندما تبدأ المعارك العسكرية، والأهم من ذلك كله هو المتغير الجديد على الساحة الأمريكية، ذلك أن نجاح أوباما وأن مثل في الظاهر استمرارًا لنفس السياسة المعروفة، غير أن الجديد في الأمر أن نجاح أوباما هذه الدورة بالذات وفشل منافسه الذي كان يحظى بتأييد اللوبي الصهيوني يمثل انعطافًا جديدًا وغريبًا على المجتمع الأمريكي الذي كانت من قوانينه الثابتة أن المرشح الذي يحظى بتأييد اليهود هو دائمًا المرشح الفائز بمقعد الرئاسة، فهل سيكون هناك تغيير ولو طفيف في سياسة أوباما تجاه إسرائيل بعد أن تخلى عنه اليهود داخل أمريكا وناصروا خصمه، وتسابق القادة في إسرائيل إلى انتقاده بتصريحات نارية اعتقادًا بخروجه الوشيك من الحكم، لذلك، ومن أجل الحصول على إجابة واضحة وعملية على هذه التساؤلات جميعها، كان من الضروري أن تطلق إسرائيل بالون اختبار صغير متمثل في هذه المغامرة العسكرية المحدودة والتي كسبت منها الكثير، غير أن الأطراف الأخرى كسبت أيضًا الكثير. لقد كان رد الفعل المصري مثيرًا لدهشة الأوساط الإسرائيلية، كان رد الفعل قويًا جدًا وسريعًا جدًا، لم تصدر مصر تصريحات عنترية جوفاء بل أفعال جادة في صميم الصراع السياسي الحقيقي، حتى إن بعض دوائر المعارضة لم تملك إلا أن تتقدم بالشكر والتأييد للرئيس في موقفه، بينما عاب البعض الآخر عليه هذا الموقف القوي بزعم أنه لم يبق لديه إجراء يتخذه إذا حدث التصعيد، لكن إسرائيل تعلم أنه إذا كانت هذه هي البداية فلابد أن في جعبة مصر الكثير، لم يكن الموقف القوي فقط هو ما أدهش إسرائيل، ولكن أيضًا سرعة رد الفعل المصري الذي لم يكن محتاجًا إلى كثير من المشاورات أو المداولات، كان رد الفعل المصري كأنه بدهيٌ أو سبق بحثه والاتفاق عليه مسبقًا قبل الحدث. وأما عن ردود الأفعال الأخرى فقد كان رد الفعل التركي ينبئ عن دخول لاعب جديد في السياسة والحرب إلى منطقة الشرق الأوسط يتعين أن يحسب له ألف حساب، ليس فقط بالنظر إلى قدراته العسكرية المتطورة ولكن أيضًا بالنظر إلى استعداده للدخول الفعلي في الأحداث، بعكس الموقف الإيراني، فرغم أنه أيضًا لاعب جديد وفاعل على ساحة الشرق الأوسط، وبرغم أنه صاحب دور رئيسي في تسليح المقاومة، إلا أن ذلك هو آخر حدوده، ويبدو أنه غير مستعد لأن يخوض المعركة مع إسرائيل بنفسه مكتفيًا بأن ينوب عنه في ذلك حماس وحزب الله، وأما عن الموقف الأمريكي فإنه جدير بالدراسة، يبدو أن الدورة الرئاسية الثانية والأخيرة جعلت أوباما يشعر بكثير من التحرر في قراراته من تأثير اللوبي الصهيوني أو التفكير في الصوت الانتخابي، فجاء الموقف الأمريكي مؤيدًا للجهد المصري في اتجاه وقف إطلاق النار بما يحرك الموقف الأمريكي بضعة سنتيمترات في اتجاه المنتصف، وهي مسافة قليلة لكنها هامة، ويمنعنا ضيق المقام عن الحديث عن مواقف أخرى هامة كالموقف التونسي والموقف القطري وموقف الجيش السوري الحر في الجولان، ولكن الأهم من كل ذلك هو موقف غزة نفسها التي أثبتت أنها قادرة على تهديد تل أبيب والقدس وإيلات وأشدود وغيرها من مدن إسرائيل ، أثبتت غزة أنها قادرة على أن تُسمع الشعب الإسرائيلي صوت صافرات الإنذار وأن تجبره على النزول إلى الملاجئ، أليس هذا متغيرًا جديدًا!! [email protected]