جرت فى مصر والعراق والسعودية قبل أيام أحداث عنف طائفية خطيرة ، أحداث تجبرنا على اعادة القراءة للواقع وتحولاته ، وللاحتلال وإجرامه ، ففى وسط التحديات السياسية والحضارية التى تتعرض لها أمتنا اليوم ، تبرز على السطح ، العديد من الأنواء والأمراض ، يلعب العدو الخارجى للأمة دوراً مركزياً فى إبرازها وتضخيمها ، ويأتى مرض (الفتنة الطائفية) كواحد من أشد الأمراض فتكاً بروح الأمة وجسدها ، وأكثرها عائداً وفائدة لأعدائها. ولكى يأخذ هذا المرض مجاله ويحدث أثره ، يفضل صانعوه أن يخلقونه من خلال فتنة ، ولعل المساس بالمقدس ، هو أهم الوسائل التى من خلالها تثار تلك الفتنة وتتسع دائرة نارها . * وإذا ما أردنا أن نقرب المعنى أكثر فإننا نشير بقدر من التفصيل لما يجرى فى العراق ، حين تتعمد قوى الارهاب والاحتلال – معاً – استهداف مئات المساجد والحوزات والأضرحة والمقامات الطاهرة لرموز الإسلام وآل بيت الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم . وما حدث مؤخراً فى سامراء من تدمير لمسجدى الإمامين العسكريين ، وما حدث قبله من تدمير وقتل فى النجف الأشرف وضد مقام الإمام على (كرم الله وجهه) وما حدث أيضاً فى مدينة الفلوجة قبل عامين على أيدى الاحتلال ، كل ذلك يدخل بنا إلى دائرة الفتنة من خلال المساس بالمقدسات ، حيث كان يلى هذا التخريب للمقدسات دائماً أحداث عنف وتوتر طائفى بين أبناء السنة والشيعة إثر كل عملية تدمير أو تخريب وتشويه لتلك المقدسات ، ويلعب الإرهاب الأسود مع الاحتلال دوراً رئيسياً فى تذكيه هذه الفتن وتكبيرها ولعل ما يجرى فى العراق ، يجرى مثله فى العديد من البلاد الإسلامية التى ابتليت بالتحديين الرئيسيين الآن اللذين يواجهان الأمة: تحدى الإرهاب الأسود الملتحف زيفاً برداء الدين والسلفية وأحياناً رداء المقاومة وهى منه براء وتحدى الهيمنة الغربية والاحتلال الذى يخلق مع هذا الارهاب ما يشبه نظرية الأوانى المستطرقة فى انتاج العنف وتطوير آلياته وانتشاره فى كافة أرجاء المعمورة ، وهما كذلك يلعبان سوياً دوراً مركزياً فى تشويه معنى وقيمة المقاومة الشرعية للاحتلال ووصمها مباشرة بالإرهاب ، مثال ما حدث ولايزال يحدث فى فلسطينالمحتلة التى بسبب تحالف التحدين السابقين بات من السهل وصف كل عملية استشهادية أو فدائية يدافع من خلالها أصحابها عن عقيدتهم وأرضهم ومقدساتهم بالإرهابية !! * إن (الإرهاب الأعمى) و(الاحتلال العنصرى) ، يؤديان الى تعريض مقدسات المسلمين إلى التشويه سواء بالمعنى المكانى (أى أماكن مقدسة كالمقامات والأضرحة بل والكعبة والمسجد الأقصى وغيرها) أو الرمزى مثل (منزلة النبى " ص " وصحابته الأطهار وآل بيته الكرام أو حتى قيم العدالة والجهاد والشورى) ، والتشويه للمقدسات الإسلامية هو المقدمة المنطقية لإحداث الفتنة سواء بمعناها الواسع السياسى والاجتماعى أو بمعناها الدينى الطائفى ، خاصة بين أهم طائفتين فى تاريخ وحاضر الأمة : الشيعة والسنة . ان ما يجرى فى بلادنا العربية والإسلامية من محاولات إساءة واعتداء على هذه (المقدسات) خلق أجواء طائفية خطرة ، تنذر بمشكلات قاسية قد تؤذى الأمة فى وحدتها وتماسكها ، ونحسب أن كياناً مغتصباً مثل الكيان الصهيونى ومن ورائه الغرب بترسانته العسكرية ودعمه المالى والسياسى ، فرح بهكذا أجواء ، ففى ذلك انشغال للمسلمين عن الاحتلال وقضاياه ، وفى ذلك انسحاب للمسلمين من دورهم ورسالتهم نحو العالم . * بالمقابل فإن هذه الأوضاع شديدة الاحتقان الطائفى والسياسى ، تلقى على عاتق النخبة من المثقفين والعلماء مسئولية جسيمة ، مسئولية المواجهة والتصدى ليس للفتنة فحسب ، بل وهذا هو الأهم لمقدماتها والتى يأتى المساس بالمقدسات وتشويهها أو تخريبها على رأس هذه المقدمات . وفى مجال النقاش الموضوعى لهذه القضية دعونا نسجل النقاط التالية : الانسان كمقدس أولاً : نحسب أننا بحاجة إلى اعادة تحرير مفهوم المقدس ، فالأمر لم يعد فى تقديرنا أمر أبنية، رغم رمزيتها وقيمتها العقائدية ، الأمر تجاوزها الى دم المسلم والذى بات مستباحاً ، من القوتين السابقتين [ قوى الارهاب الداخلى وقوى الاحتلال الخارجى ] . مطلوب منا أن نعطى لهذا (الدم) مكانته وقداسته المفقودة وأن نعيد له حرمته التى انتهكها من يدعى وصلاً بها ، ودفاعاً عنها ، فهذا الدم حسب علمى ، وعلم كافة العلماء الثقاة ، أشد حرمة عند الله من الكعبة المشرفة ذاتها وفى ذلك عشرات الأحاديث والآيات ، والتى تؤكد وتحذر . مقدسات المسيحيين ثانياً : حين الحديث عن المقدسات ينسحب الأمر كما سبق وأشرنا إلى مقدسات المسلمين (سنة وشيعة) ، ولكن من الواجب الدينى ، والأخلاقى الإشارة إلى مقدسات الآخر الدينى الذى يعيش بيننا وينتمى إلى ذات النسيج الحضارى ، بل وساهم فيه بدرجة أو بآخرى ، ونقصد (الاخوة المسيحيين العرب) ، فلقد تعرضت العديد من الكنائس فى العراق (على سبيل المثال) للإحراق والتدمير ، ومنذ أيام وقع فى فلسطين اعتداء على كنيسة البشارة وفى مصر وقعت كذلك أحداث قتل وحرق فى مدينة الاسكندرية لعدد من الكنائس امتد لاحقاً الى بيوت وأماكن عمل المسلمين وكادت أن تتحول إلى فتنة طائفية تحرق الاثنين معاً : المسلمين والمسيحيين لولا محاولات تطويقها التى جرت على أكثر من صعيد سياسى ودينى . هؤلاء المسيحيون العرب ، بمقدساتهم ، وباعتبارهم (أهل ذمة) كما يقول الخطاب الإسلامى التقليدى ، مازلنا نتجاهلهم حين الحديث عن قضية المساس بالمقدسات مطلوب الاقتراب أكثر من هذه القضية ، خاصة أنه يتم الآن توظيفها من قبل بعض سماسرة وعرابى الاستعمار الجديد ، سواء سُموا أقباط المهجر كما فى مصر أو العملاء بالوكالة كما هم فى حالة العراق وغيرها من بلادنا ، وهنا أيضاً نسجل أنه لا ينبغى أن يثنينا عن مواصلة الحديث عن هذا البعد من (قضية المقدسات) كون أصحابها أحياناً يستعينون بالأجنبى للدفاع عنهم أو لا يعدلون حين النظر إلى مقدسات المسلمين ، أو لا يتفاعلون بالقدر الكافى مع قضايا الأمة ، كل هذه الحجج مردود عليها بقوله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) . منابع الفكر التكفيرى ثالثاً : وإذا أردنا أن نكون صادقين أكثر فى الدفاع عن (المقدسات) بالمعنى الأشمل (الانسان والمكان والعقيدة) كما سبق وأصلنا ، فإنه ينبغى أن نواجه وبشجاعة هذا الفكر المتطرف الذى لم تعد له وظيفة تذكر سوى أن يكفر الناس ويبنى أمامهم أسواراً من المحرمات ، رغم أن أصل الأمور فى الدنيا هو (الحلال) ؛ ان هذا الفكر هو الذى يولد السلوك التدميرى ، السلوك الذى يفجر المقدسات ويشوهها ويقدم الإسلام فى الغرب باعتباره دين إرهاب ، وقسوة ؛ هذا الفكر هو أس الفساد ومكمن الخطر ومن الشجاعة أن نبادر برفضه وكشف عواره ؛ ان المشكلة ليست – على سبيل المثال – فى سلوك ابن لادن أو الزرقاوى أو الظواهرى المشكلة فى الفكر الذى يستند إليه هؤلاء ، انه منبع الغلو فى فهم الدين والدنيا معاً ، وهو منبع منقطع ليس فحسب عن الواقع المعاش بل عن التاريخ أيضاً ، انه يقفز مئات السنين على اجتهادات الفكر والفقه الإسلامى وأنوار حضارته ليذهب مباشرة ليس إلى تراث ابن تيمية (مثلاً) بل إلى جزء من تراث عن هذا الفقيه ، جزء هزيل ، يقوم بتضخيمه وتوظيفه والبناء عليه بالسيف ، والمخالفة والقسوة ، دون إعمال للعقل فى زمان ومكان ابن تيمية ، انه مثلاً يأخذ فتوى (مقاتلة التتار) لشيخ الاسلام ابن تيمية ويسقطها كاملة وبشروطها كافة على واقعنا المعاصر ، إلى الحد الذى دفع البعض – ساخراً- ليقول أن الذى قتل السادات لم يكن خالد الأسلامبولى أو محمد عبد السلام فرج مؤلف كتاب (الفريضة الغائبة) ومنظر تنظيم الجهاد الإسلامى عام 1981 بل ان الذى قتله هو (ابن تيمية نفسه) وذلك لأن كتاب (الفريضة الغائبة) الذى مثل المرجعية الفكرية لقادة تنظيم الجهاد كان فى أغلبه مجرد نقل لفتاوى ابن تيمية عن مقاتلة التتار . والقياس مستمر أو الحبل على الجرار كما يقولون القضية كمقدس رابعاً : واذا ما مددنا حبل النقاش إلى منتهاه ، فإن الحديث عن المقدسات لابد وأن يتجاوز حدود (المكان) ، و(الانسان) الى حدود (القضايا) والتى يعد المساس بها بمثابة مساس بالمقدس ، مساس يؤدى إلى الفتنة ؛ وفى مقدمة هذه القضايا المقدسة ، تأتى (القضية الفلسطينية) بكل ما تحتويه من (معانى ومبانى) وفى مقدمتها معنى (المقاومة) ، ومبنى (الأقصى) ، ان التفريط فى القضية باسم التسوية ، أو البحث عن السلام كخيار استراتيجى لحكام تعبوا ، ولقادة استقالوا من رسالتهم النضالية ، يعد فى تقديرنا دعوة مجانية لنوع آخر من الفتنة ، فتنة سياسية تهدد وحدة الأمة ، وتسلبها حقوقها فى الأقصى والقدس وفلسطين ، ان فلسطين كما نقول دائماً هى آية من الكتاب ، من تنازل عنها تنازل عن الكتاب ، ان الربط القرآنى العظيم بين المسجدين (المسجد الحرام بمكة قبلة المسلمين جميعاً) وبين المسجد الأقصى فى فلسطين فى الآية الكريمة (سبحان الذى أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) ليس مجرد ربطاً ماضوياً ، ربط نص يحكى أو يُقدم فى آية كريمة يتم المرور عليها ، وقراءتها . انه فى تقديرنا ربط تكليف حيث لا يصح ولا يستقيم الايمان بحرية العبادة فى المسجد الحرام ، والأقصى أسير ، والايمان ينبغى أن يسبقه ويتبعه العمل ، وهنا لابد لكى يكتمل إسلام وإيمان المسلم من أن يعمل على تحرير الأقصى ، والقدس و(الأرض التى باركنا حوله) أى فلسطين وما احتل من بلادنا العربية ؛ ان التنازل عن فلسطين باسم التسوية أو السلام أو الواقعية ، (والمعنى الأدق له بالنسبة إلينا هى الوقوعية) يعد فى تقديرنا من أعظم الاعتداءات على المقدسات ، وهو اعتداء يؤدى إلى فتنة تاريخية لا شفاء منها حيث هذه المقدسات ليست ملكاً لهذا الجيل الذى يفرط ، هى ليست ملكاً له ، بالمعنى القانونى للكلمة انها إرث متواصل لأجيال مقبلة قد تستطيع – وهى ستسطيع إن شاء الله – أن تستعيدها بالمقاومة والقوة . حزب الله فلنوسع إذن مفهوم المقدس ، ليشمل فلسطين كقضية ، ولنوسعها أيضاً ليشمل (المقاومة) ليست كوسيلة مقدسة لاستعادة الأرض فحسب ، بل كخيار وقدر لهذه الأمة المعتدى عليها ، والتى تدافع بها عن كرامتها وحقها ، وعزتها ؛ ولأن الشىء بالشىء يذكر فإن تلك المؤامرات التى تستهدف سلاح حزب الله ، تحت شعارات ملتبسة زائفة مروعة باسم (السيادة والاستقلال) ، هى مؤامرات تهدف إلى المس بالمقدس ، فالمس بسلاح لم يضبط مقاتلاً إلا الأعداء ، سلاح حمى ولايزال أرض الوطن وأمنه ، بل وأمن حتى هؤلاء الذين يطالبون الآن بنزعه ، المس بسلاح بنى بدماء الشهداء (1200 شهيد منهم أمين عام الحزب السابق وابن أمين عام الحزب الحالى) هو مس بالشهداء أنفسهم . ان الاقتراب من سلاح حزب الله وفق الرغبة والمنهج الأمريكى / الفرنسى / الإسرائيلى الوارد فى القرار (1559) ، هو الخيانة الوطنية فى أعلى صورها والتى تؤدى حتماً إلى الفتنة هل رأيتم (خيانة لا تؤدى الى الفتنة فى تاريخ الانسانية كافة !!) والغريب فى الأمر أن الذين يطالبون بهكذا مطلب ، امتلكوا شجاعة فى غير مكانها ، شجاعة أن يرفعوا رؤوسهم رغم علمهم بأن هذا مطلباً إسرائيلياً بامتياز ، هل رأيت هذه الأمة طيلة عمرها " خيانة مرفوعة الرأس " مثلما يفعل بعض من يطالب بنزع سلاح حزب الله !! * إن الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية الموحدة التى تنسق وتتعاون وتنتظم مع قوة حزب الله التى هى الإضافة الحقيقية لقوة لبنان ، هى الحل ، وليست دعوات نزع سلاح الحزب ، فتلك جريمة حتماً تؤدى إلى فتنة لا قبل للبنان الملىء بالطوائف والأفكار والمذاهب والمصالح ، بها!! ما العمل خامساً : ان مواجهة المس بالمقدسات وفق المعنى الشامل الذى سقناه والذى يمتد عبر سلسلة جديدة من (المقدسات المكانية – الانسان – العقيدة – القضايا الثوابت مثل فلسطين والمقاومة) يكون فى تقديرنا عبر اقتراب مركب ، تماماً مثلما كان المفهوم مركباً و لابد من تفعيل سلاح المقاومة بمعناه الشامل ، السياسى / الاجتماعى / العسكرى ، ضد كل ما يهدد هوية الأمة ومقدساتها ، فالمقاومة فى تقديرنا تجمع ، وتوحد ، وتعيد تشكيل الوجدان الإسلامى والعربى ، مصداقاً للآية الكريمة (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) ، فالجهاد يدفع إلى البناء والعمران البشرى والدينى والسياسى ، ويزيد من اللحمة ، وهنا أسجل أهمية العمل على خلق المشتركات السياسية أولاً ثم العقائدية ثانياً بين أبناء الأمة العربية والإسلامية ، ولعل (فلسطين) و(لبنان) و(العراق) هم خير أمثلة كقضايا سياسية لتوحيد الأمة والبناء على ذلك لمواجهة التحديات والمخاطر التى لا تنفك تنهال علينا وتخطف منا ليس فحسب المقدسات بل والأوطان أيضاً . E – mail : yafafr @ hotmail . com