الحراك هو كل مظهر من مظاهر النشاط المضاد للسكون، وهو أبرز مظاهر صحة المجتمعات الإنسانية وقوتها. والحراك أنواعه متعددة، نحصرها في ثلاثة: الأول اجتماعي، وهو انتقال الفرد أوِ الجماعة مِنْ طبقةٍ أو مستوى اجتماعي اقتصادي مُعين إلى طبقة ومستوى آخر. الثاني سياسي، وهو التدافع والنشاط السياسي والتنافس بين مختلف القوى والتكتلات السياسية. الثالث ثقافي، وهو التمسك بالهوية رغم الاحتكاك بالثقافات الأخرى، المستغربة والوافدة. وفي هذا الإطار يمكن القول بأن حراك الإسلاميين في جمعة الشريعة في 9 نوفمبر 2012 قد أوجد هذا الحراك بكافة أنواعه، وفي مختلف اتجاهاته. فحرك الشريعة في تلك الجمعة جاء ردًا على تمسك الليبراليين واليساريين بتفريغ مسودة الدستور الأخيرة من مضمون الشريعة الإسلامية الحقيقي. فالتمسك بكلمة مبادئ، لا الشريعة، في المادة الثانية للدستور، مع تواتر الأنباء من داخل الجمعية التأسيسة على استبعاد جملة "بما لا يخالف شرع الله" من مادة الحقوق والحريات والمرأة، جعل كثيرًا من التيارات الإسلامية، كالجماعة الإسلامية والجبهة السلفية وتيار حازم أبو إسماعيل، تدعو للتحضير لهذه الجمعة بأقصى سرعة. وفي هذا السياق جاء حراك الشريعة الرئيسي منصبًا على توعية الناس بأن تطبيقها، لا يعني تطبيق الحدود وتقطيع الرقاب والأيدي وجلد الزناة، وإنما هي مفهوم شامل للعقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات. وأنها الضامن لتحقيق شعارات الثورة حول العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وعلى هذا، فإنك حين تدخل ميدان التحرير في صباح جمعة 9 نوفمبر تتأكد تمامًا أن مصر الإسلامية قد أعربت عن نفسها، وبقوة. وأن هذا الإعراب قد اتخذ أشكالًا متعددة، في المظهر العام والكثيف لعدد اللحى والجلابيب البيضاء والرايات والنقاب والشعارات والمطالب. وفي المحافظة على النظام الشرعي في كل شيء، بدءًا من رفض وقوف فتاتين على المنصة الرئيسية كانتا تقومان بتصوير فعاليات الجمعة، انتهاءً بفصل النساء عن الرجال أمام المنصات وفي كل التجمعات داخل الميدان. في جمعة الشريعة ترى رموز التيارات الإسلامية المختلفة التي دعت لها، وبالطبع كان أبرزها رموز الجماعة الإسلامية، أمثال صفوت عبد الغني وطارق وعبود الزمر وعاصم عبد الماجد وخطيب الجمعة الدكتور محمد الصغير وغيرهم الكثير. ترى فيها وجوهًا تحمل كل معاني القوة والعزيمة والتصميم والاستعداد بالتضحية بالنفس فداءً للشريعة التي احتشدوا من أجلها. فقد اعتبروها تتويجًا لكفاحهم الطويل ضد النظم السابقة التي ألقت بهم في السجون والمعتقلات، حينما طالبوا بها. حراك الشريعة لم يبدأ في جمعة 9 نوفمبر 2012 فقط، بل بدأ مع اجتماع سلفية الإسكندرية يوم 8 فبراير 2011، حين صدرت تخوفات كثيرة من تغيير المادة الثانية باقتراب نجاح الثورة. وهو الأمر الذي ساعد على ضم قطاعات عريضة لها، أو هكذا كان الهدف حينها. وظهر عمليًا في جمعة مسجد النور بالعباسية بعد نجاح الثورة، تلك الجمعة التي خطب فيها الشيخ محمد حسان، وحضرناها جميعًا موقعين على عرائض تطالب بتطبيق الشريعة وصيانة المادة الثانية من أي مساس، كما حدث تمامًا في جمعتنا موضوع المقال. حراك الشريعة كشف لنا إمكانية تغيير معطيات الواقع المصري الذي تصلبت شرايينه عن تحركات الطبقات الدنيا والشرائح الوسطى عن الصعود. فمناقشات التحرير الجانبية والعلنية حثت الكثير من المتوجدين على أن تطبيق الشريعة هو الضامن الوحيد لهذا الحراك والصعود حسب الجهد المبذول. وأن نجاح الثورة الحقيقي لا ضامن له إلا بتطبيقها، فهي الوحيدة التي تحمل كل فضائل الدساتير المكتوبة، وتضمن الحقوق والحريات. فالشريعة هي التي تقاوم الجهل والتخلف وتحث على العلم والتعلم، وهي بوابة كبيرة من بوابات الحراك الاجتماعي، فضلًا عن حفاظها على منظومة القيم والأخلاق، ومحاربتها للرذيلة والفساد والرشوة. ومن ثم فإنها الضامن الوحيد للاستقرار والحيوية لهذا المجتمع. فحالة الجدل السياسي والثقافي والاجتماعي والفكري والاقتصادي السائدة حاليًا في مصر حول جمعة تطبيق الشريعة، لا تعكس إيجابيات وفوائد كثيرة فقط، بل أوجدت فواصل عميقة بين الفرقاء أيضًا. حيث يجري تبادل اتهامات التخوين والعمالة والتكفير وتصعيد الخطابات العنترية والطائفية والحزبية والمصلحية. فدخول أطياف المشهد السياسي والمجتمعي في جدل مفتوح وخصام، دون هدف محدد من ورائه، هو الذى ساعد على استمرار عملية الاقصاء وصناعة الفواصل وتعميق الخلافات، وعمل على إبعاد المجتمع عن دائرة الحراك والنشاط والفعل. وهو الأمر الذى جعل أعضاءً كثيرين من رابطة المحامين الإسلاميين على سبيل المثال، يتقدمون ببلاغ للنائب العام، الأحد 11 نوفمبر 2012، ضد الدكتور محمد البرادعي رئيس حزب الدستور، يتهمونه بالإهانة والإساءة للإسلاميين ورموزهم وشيوخهم. ومع هذا، لم تخل تلك الجمعة من نظرات إيجابية كثيرة، وبأنها على الأقل أوجدت تيارًا ثالثًا داخل الحالة الإسلامية، بجانب حزبي الحرية والعدالة والنور السلفي. غير أن حجم البرامج اليومية المتخوفة والمتعارضة مع هذه الجمعة، يضعنا أمام أزمة حقيقية. فكثير من التيارات الليبرالية قد صعدت من اشتباكها الصريح مع الإسلاميين، ودعت في المقابل لجمع خاصة مضادة لها. وثمة نتيجة مهمة يمكن أن نخلص إليها، وهي أن حراك الشريعة قد أوجد بالفعل حراكًا مجتمعيًا جعل الناس العاديين يتساءلون ما هي الشريعة؟ وما هي فائدتها ومزاياها، وكيفية تطبيقها؟ وما أثرها في حياتهم؟ ولهذا فإن أمرها لم يعد نخبويًا يخصم من قطاعات الليبراليين واليساريين داخل المجتمع المصري المتمسك بإسلامه وبتعاليم دينه فقط، بل بدا جماهيريًا يصب في صالح التيارات الإسلامية، بما يضمن لها حضورًا سياسيًا كبيرًا في المرحلة المقبلة. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.