عندما تحين فى كل مرة ساعة خطاب النصر للرئيس الأمريكى الفائز تحين معها الكثير من الفرص للتعرف على ملامح القوة الحقيقية التى تصنع الانتصار فى مجال السياسة, وهى هنا مع الرئيس الأمريكى أوباما والمنتخب لفترة رئاسية ثانية جد مختلفة. للوهلة الأولى ربما تكون أمريكا فى الانطباع العربى والمزاج المسلم فى صورة الدولة الظالمة القاهرة لنا بحكم ما أحدثته سياساتها فى المنطقة من عدوان فينا وبسبب تحكم نماذج سيئة من الحكام علينا وهذه هى الصورة النمطية المدخرة لأمريكا فى أذهاننا والتى سعت أمريكا فى عهد أوباما جاهدة لتحسينها عبر رسائل إيجابية عديدة أبرزها ذلك الخطاب الشهير للرئيس أوباما فى جامعة القاهرة فى العام 2009 والذى أشاد فيه بالإسلام كدين وحضارة ولدوره فى النهضة البشرية، ولكن ما يعنينا هنا ليس نصاعة أو بشاعة الصورة الذهنية لأمريكا وإنما من المهم أن نعترف فى قرارة أنفسنا أننا نواجه لحظة تاريخية عسيرة بالنسبة لأمتنا, فالولايات المتحدةالأمريكية والتى تعتبر الدولة الأولى والأقوى فى العالم ليست منهارة قيميًا أو سياسيًا على الأقل فى الداخل وبالتالى هى تتفوق علينا فى مجال القيم السياسية والاجتماعية وحقوق الإنسان بالنسبة لمواطنيها ما فى ذلك شك والأهم من ذلك أنها تضرب لنا كل أربع سنوات النموذج والمثال فى الانتقال السلمى للسلطة بل وإعادة انتخاب نفس السلطة بكل شفافية واحترام يزيد من القوة السياسية لأكبر قوة ديمقراطية فى العالم. نحن نواجه لحظة تاريخية عسيرة لأن هذا الاختبار الحضارى اليوم مع الغرب وأمريكا ليس كالسابق فالتقاطع مع الفرس والروم فى ما قبل زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت موازينه القيمية لصالح العرب ولأجل ذلك تم اصطفاؤهم لرسالة الإسلام وإن كانت الموازين المدنية والعمرانية لدولتى كسرى وقيصر وازداد هذا الفارق قوة برسالة الإسلام لكن الحضارات تنهار بانهيار القيم أولاً ثم يتبعها كل شيء! وحتى فى القرون الوسطى كان الصليبيون بهمجيتهم يمثلون أعلى نقاط التقاطع مع التسامح الإسلامى فى المشرق العربى الذى قبل الآخر واستوعبه كجزء من الأمة بعهد الذمة الأول من الرسول صلى الله عليه وسلم وكان المسيحيون شركاء فى الوطن والدفاع عنه فى ذاك الزمن ضد عدوان إخوانهم الآتون من وراء ظلام البحار! فى كل لحظات انتصار حضارتنا كانت التقاطعات ترجح الكفة للمسلمين وللعرب حتى وإن كانوا هم فى أقصى درجات التخلف المدنى لكنهم كانوا بقيمهم يشمخون فى التاريخ وما مشاهد عدل عمر بن الخطاب أو عدالة عمر بن عبد العزيز أو سماحة صلاح الدين ومروءته أو بسالة الخليفة الكامل فى مصر وشهامته أو ثقافة وعلم آل زنكى وشجاعتهم أو حضارة المسلمين الشامخة فى الأندلس ببعيدة عن الأذهان لكننا اليوم فى خسارة فادحة لميزان القيم والمدنية معًا. لقد كان المشهد الحضارى الكونى يدين لنا بالفضل لأننا نمتلك مايرجح أو ما نستحق أن نمنح به نقاطًا على الغير وإن تفوق علينا فى أشياء أخرى. لكننا اليوم فقراء تمامًا من الكثير الذى كنا نرجح به. ففى ساعات إعلان فوز أوباما وإعادة انتخابه السلس ومع بهاء المشهد الانتخابى الأمريكى كانت مدفعية الجيش السورى تدك المدن السورية دفاعًا عن رئيس أصبح شعبه لا يريده! ولكم أن تتخيلوا الفارق هنا فى هذه اللحظة التاريخية بين شعب يعيد انتخاب رئيسه بطريقة متحضرة وسلسة فيشكرهم بل ويفخر بهم, وبين شعب يرفض رئيسه الذى حكمهم لسنوات طوال هو وأبيه فيعاقبهم بالموت! هنا يرجح الميزان ولا نمتلك من موارد الاستعلاء الكاذب شيئًا لنفخر به فقد افتقدنا القيمة الحقيقية لمعنى احترام خيار الشعوب بل ورمينا كل إرثنا الحضارى فى حرية الاختيار والشورى فى السقيفة وراء ظهرنا لنضمحل فى لحظة جاهلية سوداء لا تمت حتى للماضى البائس للعرب بصلة. إن عوامل قوة أمريكا كما قال أوباما ليست هى القوة العسكرية وليست التكنولوجيا وليس التعليم المتطور على أهمية كل ذلك ولكنها القيم والترابط بين مكونات الشعب الأمريكى والذى تربى وعاش على الحلم الأمريكى القديم بالقوة والريادة والإنجاز ونجح فى مزج المكونات الثقافية المختلفة عرقيًا ودينيًا فى هوية واحدة هى الهوية الأمريكية تحت علم واحد ورئيس واحد ونظام واحد وهو ما فشلنا فيه نحن وساعة فشلنا رحنا نلقى باللوم على أمريكا والغرب بأنهم هم السبب! غير إننى أرى فى القوة الأمريكية اليوم شيئًا يختلف عما قاله أوباما وهى قوة النمذجة السياسية والحفاظ على التقاليد والمثل السلطوية فى إدارة الانتخابات وإعلان النتائج وخطاب الخاسر وخطاب المنتصر الذى لم يشر فيه أوباما لكلمة (نصر) ولو مرة واحدة! إن التعرف على ميكانيزم التفوق الأمريكى مهم لإحداث الرغبة فى التغيير لدينا فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية لننتج نموذجنا الخاص بنا ليس بالضرورة على غرار النموذج الأمريكى ولكن ربما من نفس منطلقاته فى تأمين الإنسان وقوة البناء وحماس الانطلاقة فى رؤية المؤسسين الأوائل لأمريكا والتى إن كانت تمتلك ماتفخر به من أولئك المؤسسين فنحن نمتلك العشرات بل المئات من النماذج الملهمة لنا فى حياتنا لكنهم لم يفارقوا محطة أن يكونوا قصصًا فى مدارسنا للصغار أو ملحمة للحماس فى أفضل الظروف بينما فشلنا تمامًا فى تحويل طاقة الإلهام هذه لرؤية اجتماعية سياسية تجعل بعض التاريخ الناصع لنا فى خدمة الحاضر المؤسف لأمتنا. إن من أهم مايجب أن نتعلمه من الانتخابات الأمريكية اليوم أن بناء القوة ليس عسكريًا فقط وليس اقتصاديًا فحسب بل هو قوة الروح والأفكار أولاً وأخيرًا, إن قوة الفكرة لا تسوى شيئًا أمام منطق القوة العاجز, فهى من تنتج القوة العادلة وليست الغاشمة كما يجب أن نتعلم أننا نحتاج للعمل كثيرًا على القيم ومنظومتها الاجتماعية وأن نتخلص من تناقضاتنا النفسية والمعنوية بالانحياز الكامل والمجرد للقيم المطلقة فى الخير والعدل والإحسان بغض النظر عمن يحملها أو يغض النظر عمن نختلف معه وأن ننصر هذه القيم فى مجتمعاتنا دون انحياز لتوجهاتنا الأيديولوجية واختياراتنا الفكرية أو الثقافية حينئذ نستطيع أن نصوغ وجداننا بشكل سليم ليصبح وعاءً طاهرًا لرؤية متشبعة بقوة الإلهام من ماضينا المشرق لننطلق بعدها لتحقيق حلمنا فى النهضة والريادة بجد وعزم لكن بالكثير من التواضع للغير والإيمان بالهدف. * صحفى وكاتب سودانى