من الغرائب أن يعلن رئيس الولاياتالمتحدة عن نيته مخاطبة العالم الإسلامى. فلنجمعه له إذا، وليجلس بأدب ويستمع. ومن الغرائب أن يكرر الإعلام العربى ويروِّج للحدث بنفس لغة منظِّم الحدث: «يلقى الرئيس الأمريكى خطابا موجها للعالم الإسلامى». وفور إعلان النبأ يتحول طبعا إلى «الخطاب المنتظر»، و«الخطاب المتوقع». ولا أدرى لماذا أصر الإعلام العربى طيلة أكثر من أسبوع على محاولة استشراف ما سوف يأتى فى الخطاب، كأنه حرب سوف تقع أو سلام سوف يبرم. هل كان سينجم عن هذه المعرفة شىء ما، خطوات مهمة مثلا يجب اتخاذها قبل أن يلقى خطابه؟ لا فرق أن توقعنا أم لم نتوقع، ويمكن للإعلامى العربى أن ينتظر يومين ليسمع، فليس هنالك ما يضطره أن يتنبأ بما سوف يقوله الرجل، فلن يستبق أحد الخطاب بإعلان خطوة سياسية ما لو عُرِفَ المضمون. وليست مهنته كالتنجيم أو الشغف بمعرفة المصائر قبل وقوعها القدرى. إنها صناعة خلق الانتظار والتوقع والترقب والاهتمام، وصبها جميعا فى قالب معين واتجاه معين. وقد صيغ هذا الاتجاه مؤخرا من خلال تأكيد كلمة تاريخي: «زيارة تاريخية»، «خطاب تاريخى». ومن هنا فخلافا لما يُروَّج، ليس الرئيس الأمريكى بحاجة أن يقوم بحملة علاقات عامة، فهنالك من يقوم بها من أجله. هنالك من يخترع هذا النوع من الاهتمام. وطبعا هو لا يخاطب العالم الإسلامى، بل يطرح توجها جديدا فى التعامل فى السياسة الخارجية الأمريكية بما فيها فى العالم الإسلامى. وقد سبق أن قيل غالبيتها، منذ أن ألقى كلمته فى موظفى وزارة الخارجية. وقد انتُخِب ليجرى هذا التغيير فى الخطاب السياسى الأمريكى. ويخطئ من لا يرى تغيرا وتغييرا. أتى التغيير بعد أن أفشلت المقاومة وغيرها الخطاب السياسى السابق لقضايا المنطقة مقاربة وممارسة. هنالك تغيير. وقد فُرِضَ التغيير بفضل مقاومة الشعوب العربية للسياسة السابقة فى العراق وفلسطين ولبنان، وليس بفضل من يصفقون دون شروط لهذه السياسة، أكان ذلك فى عصر الرئيس السابق أو الحالى. ولكن مجرد تكرار الإعلام العربى للعنوان الذى اختاره هو «مخاطبة العالم الإسلامى» ضاعف من قوة الخطاب. وخلق نزعة للمبالغة ولاعتبار كل ما قيل جديدا. إذ صُوِّر العالم الإسلامى كائنا موحدا متجانسا ينتظر فى حالة ارتباك وذهول وقلق، ولن يهدأ له بال قبل سماع كلمة الرئيس. ولا بد من مكافأته على هذا الانتظار باعتبار الخطاب بداية مرحلة جديدة. لكن العالم الإسلامى بعيدا عن التجانس سياسيا، فهو يتنوع من حلفاء لأمريكا بدرجات متفاوتة وحتى خصوم وأعداء لسياستها بدرجات متفاوتة، ولا يمكنه أن يخاطبهم جميعا فى إطار واحد. فالولاياتالمتحدة حاليا تخاطِب مسلمى وزيرستان وأفغانستان بلغة القاذفات مثلا، وينفذ سياستها هناك مسلمون ايضا، وهى تخاطَب أيضا هناك بهذه اللغة. ومن المرجح أن المسلم فى إندونيسيا لم ينتظر ليجلس بأدب ويستمع إلى خطاب الرئيس الأمريكى فى القاهرة. ناهيك عن أنه كان من الأسهل والأكثر منطقية أن يدَّعى الرئيس أنه يخاطب العالم العربى من القاهرة، ولكن الولاياتالمتحدة رغبت وترغب بإخراج مصطلح العالم العربى من التداول أصلا، اللهم إلا فى سياق مبادرة السلام العربية. والغريب أن العرب الذين يؤكدون على العروبة ضد إيران فقط لم يكرّروا تأكيدهم على العروبة فى هذه الأيام «التاريخية». ولا شك أن الرئيس الجديد، وهو ظاهرة صوتية (مع الإضافة أنها ظاهرة صوتية سجالية لبقة)، قد حُمِل إلى السلطة على موجة تغيير فعلية يفرِحُ حلفاءه المحافظين فى العالم الإسلامى بأنه لا يسعى، ولا يدعى أنه يسعى ل«ثورة ديمقراطية دائمة» كالمحافظين الجدد، بل يعتمد لغة المصالح البراجماتية التى ميزت المحافظين فى الماضى. وقد بينت هذه اللغة فى الماضى، وهى تبيِّنُ حاليا أيضا نفاق الليبرالية الأمريكية «التقدمية» حين يتغنى ممثلها الأبرز حاليا، أى الرئيس الأمريكى، لغرض النفاق بحكمة ملك لا يشترك معه فى شىء. هذا هو مصير الليبرالى خريج هارفارد، والذى حملته موجة تغيير شبابية إلى الحكم ليمثل قيما جديدة، فوجد نفسه متبعا لسياسة المحافظين بدل المحافظين الجدد، إذ حول لقاء المصالح إلى المعيار. وطبعا يغلَّف لقاء المصالح بالكلام المعسول عن «لقاء الحضارات» و«حوار الحضارات» و«احترام الحضارات» و«الأنا والآخر»، بدل صراع الحضارات. وهو نوع من الكلام الذى يسير على حبل موازنا بين النقائض يتقنه الرئيس الحالى وأتقنه فى الحملة الانتخابية، خصوصا أن لديه اطلاعا على عبارات يسارية وتقدمية و«لائقة سياسيا» يستخدمها فى شرح مصالح الولاياتالمتحدة. وعلى الرغم انتماء اللغتين (لغة حوار الحضارات ولغة صراع الحضارات) لنفس المنظومة الفكرية التى تقسم العالم سياسيا أيضا إلى حضارات، فإن النفاق يبقى أفضل من الحرب. وقد كشف الرئيس الأمريكى عن نوع «رسالته» إلى العالم الإسلامى عندما تغنَّى بحكمة النظام الرسمى العربى القائم. وكان منافقا بالمعنيين، بمعنى التواضع الكاذب فى التعامل مع المناصب والوجاهات، لأن التواضع هنا ليس تواضعا بالفعل بل محاولة فى الخداع لكسب الودن ولأنه يتضمن استخفافا بعقول الناس. والنفاق يعنى التضخيم الانتقائى لعناصر يصح فيها المديح، كما تكسب شخصا بمراءاته، متجاهلا التناقض القيمى لأن لديك مصلحة معه. إنها السياسة بأقبح أشكالها. لغة النفاق الاستعمارية لم يخترعها الرئيس الأمريكى الجديد. إذا اكتفى بالتأكيد على الوجه المشرق النير فى الإسلام معتمدا على آيات عدة تبعها تصفيق من قبل الباحثين عن الاعتراف بالإسلام فى الغرب، بعد أن كان نفس الرئيس قد تعامل مع الإسلام كأنه تهمة أو تشهير به حين «اتُهِّم» به إبان الحملة الانتخابية. وهو الآن يأخذ راحته فى النفاق بعد أن تحرر من الحملة الانتخابية التى تفحصت علاقته بالإسلام بمجهر اليمين وماكين،. والكلام التلفيقى كما أسلفنا اختصاصه الدائم، مع الديمقراطية وضد تصديرها، مع الحجاب ومع تعليم المرأة، مع الفلسطينيين وضد المقاومة، مع الحرب على أفغانستان وضد الحرب على العراق... هذا اختصاص توازن الألفاظ الذى لا يضر ولا ينفع، أما الواقع والممارسة فشأن آخر. أما نابليون فأذكر القارئ أنه قال فى بداية حملته على مصر إذ خطب حسبما نقل الجبرتى بالعلماء والمشايخ مفتتحا بالبسملة رافضا ليس الشرك فحسب، بل مبدأ الآب والابن: «بسم الله الرحمن الرحيم لا اله إلا الله لا ولد له ولا شريك له فى ملكه... أيها المشايخ والأئمة.. قولوا لأمّتكم أنّ الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا فى روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسى البابا الذى كان دائما يحثّ النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا منها الكوالليرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين». لقد ادعى نابيلون أنه مسلم، وأن الفرنسيين مسلمون وأنه حارب الفاتيكان لأنه أطلق الحملات ضد المسلمين. صدق أو لا تصدق!! ولن أضيف. وهو نفس نابليون الذى دعم إقامة دولة لليهود فى فلسطين قبل نشوء الصهيونية. مهما نافق الرئيس الأمريكى الجديد بلغة اللياقة السياسية، «من ناحية... ومن ناحية أخرى...» بشكل لا يزعل أحد، إلا أنه لن يصل إلى مستوى خطابات أخرى سمعها العرب الحاليون وأسلافهم. ولا يرغب بعضهم بتذكرها. سوف يفرح الرئيس الأمريكى الجديد المحافظين العرب ببراجماتيته، وعدم رغبته بتصدير الديمقراطية وبرغبته بالتعايش على أساس المصالح المشتركة مع الأنظمة العربية والإسلامية القائمة، هذه المصالح المغلفة بحوار الحضارات، والتسامح والاحترام المتبادل. ولكنهم سيغضبون إذا اتبع نفس البراجماتية تجاه إيران. أما اللبراليون الجدد العرب، الذين التقوا مع المحافظين الجدد على تصدير الثورة الديمقراطية على المدمرات الأمريكية فسوف يخيِّب أمل بعضهم، ولكنهم سوف يعوضون عن ذلك بتمكنهم من مدح أمريكا علنا لأنها تخلت عن الحرب المباشرة والفورية لصالح لغة الدبلوماسية والسلام والحوار وغيرها، وهذا ما سوف يحصل فعلا فى منطقة الخليج وغيرها. وعندما تتراجع الولاياتالمتحدة عنها بسبب «التعنت» الإيرانى ورفض التخصيب، أو إذا لم يتم التوصل إلى تسوية / صفقة مع إيران، فسوف يمتدحون أمريكا أيضا. فلسطينيا: من اتفق من العرب مع كل ما قاله الرئيس الأمريكى السابق، لا يفترض أن يهمه كثيرا ما سوف يقوله الرئيس الجديد، ولا تحليلنا لما أدلى ويدلى به. فهو سوف يتفق مع الرئيس الأمريكى على أية حال. وهل كانت لدى النظم العربية الحليفة للولايات المتحدة مشكلة مع ما درج بوش على قوله، لكى تتأمل خيرا مما سوف يقوله الرئيس الجديد؟ فما يقوله رئيس الولاياتالمتحدة هو خير بحكم تعريفه، وذلك بالنسبة لمن يرى أنه لا بد من قبول ما يقوله والتنظير له وشرحه، ولو قال عكس ما يُنَظَّر له حاليا. فهذه هى الاستراتيجية الوحيدة فى جعبة هذه النظم. ولكى لا أصعِّب على أحد هضم ما يقال لن استعين بخطابات سابقة لبوش حول الإسلام والتطرف والاعتدال والخير والشر اتفق معها عرب أمريكا المحافظون، وكلام آخر حول ضرورة الديمقراطية اتفق معه عليه عرب أمريكا النيو لبراليون، فوجد كلٌّ منهم ضالته فى كلام بوش، ولو كانوا على طرفى نقيض. فكان التحالف مع بوش كافيا للقاء النيو ليبراليين مع الأنظمة غير الليبرالية وغير الديمقراطية العربية الحليفة للحليف.. بل سوف أذهب إلى خارطة الطريق. ولماذا يتأمل العرب جديدا فى الشأن الفلسطينى من الرئيس الأمريكى ما داموا قد وافقوا بحماس على خارطة الطريق التى طرحها بوش؟ وقد حوَّلوا هذه الخارطة إلى مطلب وسقف تجرى مطالبة إسرائيل بتنفيذه بعد أن نفذ الفلسطينيون حصتهم منه. وظهر ذلك جليا إبان الحرب على غزة، عندما قمعت السلطة فى الضفة ليس فقط المقاومة بل التضامن السلمى مع غزة. فهذا برأيهم يؤهل الفلسطينيين للمطالبة أن تنفذ إسرائيل حصتها من الخارطة ما دامت فقراتها الأولى المتعلقة بهدم البنى التحتية اللإرهاب، إما نفذت أو قيد التنفيذ الحثيث. ولماذا يتوقع العرب جديدا من الرئيس الجديد ويهتفون لإصراره على دولة فلسطينية وحل الدولتين ما دام بوش قد رأى ( من رؤية، والمقصود رؤية بوش) دولة فلسطينية قبل نهاية عهده؟ سبق أن تحمسوا لرؤيا بوش، ويتحمسون الآن لرؤيا اوباما. تغيرت أمريكا، لا شك. كما تغيرت فى عهد روزفلت وكنيدى وريجان. أما المشكلة فهى تغيير عقل الأنظمة العربية السياسى. صحيح أن هنالك نبرة أمريكية جديدة تجاه إسرائيل تشبه نبرة اليسار الصهيونى وليس اليمين الصهيونى، بالتأكيد على «حقين لشعبين»، ويعتبر الدولة اليهودية قيمة عليا. ويرسم تكافؤا حيث لا تكافؤ. حسنا، نبرة جديدة إذا. ولكن حتى هذه النبرة الجديدة ناجمة ليس عن تغير فى أمريكا فقط بل تغير فى إسرائيل أيضا. فهنالك حكومة فى إسرائيل ترفض التعهد شفويا بتجميد الاستيطان كما فعلت الحكومة الإسرائيلية السابقة حتى لإدارة بوش، كما ترفض الالتزام الشفوى بمبدأ حل الدولتين كما فعلت الحكومة السابقة فى عهد أولمرت. هذا هو الفرق. وينجم رفض أوباما التعهد بالالتزام بورقة تطمينات بوش لشارون عن رفض نتنياهو الالتزام ب«رؤية بوش» المتعلقة بحل الدولتين. التغير هو أولا فى النبرة الإسرائيلية نحو اليمين تبعه تغير فى النبرة الأمريكية تجاه هذه التغير. وفى الشأن الفلسطينى تحديدا لا يوجد تغير فعلى فى الموقف الأمريكى. يوجد تغير فى النبرة لأن هنالك حكومة إسرائيلية غيرت نبرتها، وترفض الالتزام بأسسٍ تمكِّن من العودة لما يسمى ب«عملية السلام». وهذا ما يمكن لأوباما التعهد به فعلا للعرب، تغيير النبرة والضغط على إسرائيل للعودة إلى «عملية سلام». فأمريكا وحلفاؤها العرب بحاجة لمثل هذه العملية السياسية الجارية التى صارت تشكل موسيقى مرافقة دائمة، وأجواء لا بد منها فى تصوير فيلم الاعتدال العربى، مثل الموسيقى التى ترافق التغطية الصامتة للاستقبالات والمناسبات فى التليفزيونات الرسمية فى الدول التى يزورها الرئيس الأمريكى حاليا. لا تكمن المشكلة بالاعتراف بحصول تغير فى الولاياتالمتحدة، وهو على كل حال لا ينشأ ولا يعبر عنه حتى فى محاضرة أو زيارة، بل المشكلة فى غياب استراتيجية عربية. ولذلك فحتى لو جرى تغيير ففيما عدا الفرح بتغير النبرة والأجواء، ليس بوسع العرب أن يحصدوا الكثير من هذا التغيير.