ما أظن أن خطاباً سياسياً فى العقد الذى يوشك أن ينقضى من القرن الواحد والعشرين حظى باهتمام العالم كله مثل ما حظى به خطاب الرئيس أوباما الذى ألقاه من جامعة القاهرة يوم الخميس الماضى. وكل القضايا التى أثارها أوباما قضايا بالغة الأهمية، ولكن التعليق عليها كلها تعليقاً جاداً فى مقال واحد، يبدو أمراً عسيراً، ولذلك رأيت أن أجتزئ فى التعليق على أقرب قضيتين إلى وجدانى وعقلى وأهمهما بالنسبة لهذه المنطقة التى قدر لنا أن نعيش فيها وهما: قضية الصراع العربى - الإسرائيلى، وقضية الحكم الديمقراطى. ومن الواضح أن الخطاب كُتب بعناية فائقة وأن الرئيس أوباما ألقاه بطريقة ساحرة تميز بها منذ حملته الانتخابية التى لفتت إليه أنظار العالم. قالت بعض التعليقات إن الذين شاركوا فى إعداد مسودة الخطاب بلغوا أكثر من مائة خبير، وإن كل كلمة فى الخطاب كانت محل تدقيق وهذا يبدو واضحاً من ذلك التوازن والتناغم فى كل فقرات الخطاب. ومع ذلك فإن الجاذبية الأساسية فى الخطاب اعتمدت على ذلك الإلقاء الفريد الذى تميز به هذا الموهوب. والخطاب صادر عن رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية. هذا هو المصدر. صحيح الخطاب موجه إلى العالم كله، خاصة إلى العالم العربى والإسلامى ومنطقة الشرق الأوسط. ومن هنا فإن مقاربة الخطاب يجب أن تأخذ فى الحسبان صاحب الخطاب فى الأساس. وقد كانت هذه هى بدايتى فى المقاربة. وهذه البداية هى التى جعلتنى مثل الملايين غيرى يعجبون بالخطاب ويقدرونه تقديراً شديداً حتى إن اختلفوا مع هذه الجزئية أو تلك. وصاحب الخطاب نفسه يقر حق الاختلاف والتعددية وقبوله والتسامح معه. هذه هى الروح السائدة فى الخطاب وهذا هو سر تلقيه هذا اللقاء، الذى لا يتصور أفضل ولا أحسن منه. وفيما يتعلق بالقضية الأولى - قضية الصراع العربى - الإسرائيلى، فقد اعتدنا من رؤساء الولاياتالمتحدة وكبار ساستها الانحياز شبه الدائم لطرف واحد هو إسرائيل، وقد كان ذلك أحد مصادر التوتر الأساسية بين العالم العربى والولاياتالمتحدةالأمريكية، وجاء خطاب أوباما لا ليرضى كل ما كنا نتمناه - كما سأوضح فيما بعد - ولكن يتبع نبرة متوازنة بين الطرفين. ولم يكن بتصور من رئيس الولاياتالمتحدة أن يكون أكثر توازناً وأكثر حصافة وهو يخاطب العالم كله بما فيه من توجهات عديدة وقوى مختلفة ومصالح متباينة وشعوب تختلف آمالها وتطلعاتها. لابد من ميزان الذهب بل وأدق منه بين كل هذه التعقيدات، وكذلك جاء الخطاب. ومع ذلك فأنا كعربى قومى قد أجد على هذه القضية - من وجهة نظرى كأحد المتلقين للخطاب - عدداً من الملاحظات. صحيح قال أوباما «ليكن واضحاً أن الوضع الفلسطينى لا يحتمل، ذلك أن هذا الشعب يعانى الإهانة والمذلة اليومية الصغيرة والكبيرة» وما أظن مسؤولاً أمريكياً وصف أحوال الشعب الفلسطينى بمثل هذا القدر من الوضوح، هذا صحيح ولكن من ناحية أخرى، يدعو الرئيس الأمريكى الفلسطينيين إلى نبذ العنف فى مواجهة إسرائيل. وهذا حق. ولكن من حق الفلسطينيين أن يتساءلوا، وأن نتساءل معهم أى عنف ذلك الذى يقدر عليه الفلسطينيون فى مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية البشعة، ثم هل نسوى بين الضحية والجلاد، ونطلب من كليهما عدم العنف؟ أم أن هناك ما يسمى حق المقاومة للشعوب المغلوبة على أمرها التى ترضخ لاحتلال عنصرى بغيض. وأيضاً يتحدث الرئيس الأمريكى عما لاقاه الشعب اليهودى من اضطهاد وعنت بل مذابح على يد المتعصبين النازيين، وقد يكون ذلك كله صحيحاً ولكن ما ذنب العرب والفلسطينيين فى ذلك كله، ولماذا يتحملون هم وحدهم ما لم تقترفه أيديهم واقترفه آخرون؟ أكرر أن هذا الكلام من وجهة نظرى كعربى يبدو منطقياً وسليماً ولكنى مع ذلك أفهم موقف الرجل الذى يخاطب العالم كله ولا يخاطب العرب والفلسطينيين فقط. هذا عن القضية الأولى. أما القضية الثانية: قضية الحكم الديمقراطى، فقد كان الرئيس الأمريكى شديد الحصافة، وبدأ حديثه فى هذه القضية بمقولة لا يختلف معه فيها أحد حاكماً كان أو محكوماً حيث يقول: «لا تستطيع أية دولة ولا ينبغى على أية دولة أن تفرض نظاماً للحكم على دولة أخرى». أظن أن هذه مقولة يستحيل حولها الخلاف، وكان أوباما موفقاً كل التوفيق فى أن يجعلها مقدمة لحديثه عن الديمقراطية وعقب هذه العبارة مباشرة قال عبارة أخرى موفقة كل التوفيق أيضاً: «إن أمريكا لا تفترض أنها تعرف ما هو أفضل شىء بالنسبة للجميع» وبعد ذلك تكلم عن أنه يعتقد اعتقاداً راسخاً أن كل شعوب الأرض تتطلع إلى أن يكون لها رأى فى كيف تحكم، وأن كل شعوب الأرض تريد سيادة حكم القانون وتريد العدالة والمساواة وتريد حكومات شفافة لا تسرق ولا تنهب أموال الشعوب، وأن هذه كلها مبادئ مشتركة فى التراث الإنسانى وليست صناعة أمريكية فقط. ومع تأكيده على ضرورة الانتخابات الحرة النزيهة الشفافة، فقد أكد أيضاً أن الانتخابات وحدها لا تُوجِد ديمقراطية حقيقية. وهذا ما يعنيه علماء السياسة عندما يقولون إن الانتخابات الحرة السليمة شرط ضرورى للديمقراطية، ولكنها ليست شرطاً كافياً ولابد أن تسبق الانتخابات السليمة الحرة النزيهة تعددية سياسية حقيقية ورغبة أكيدة فى احترام إرادة الشعب لا فى تزييفها بكل طريقة ممكنة. فى الأسابيع الماضية أُجْريت انتخابات فى الهند وفى جنوب أفريقيا وفى إنجلترا، ولم تسفر الانتخابات فى أى من هذه البلاد عن فوز الحزب الحاكم بكل المقاعد أو حتى بأغلبيتها، بل إن حزب العمال البريطانى الذى أجرى الانتخابات خسر أغلب مقاعدها. الانتخابات الديمقراطية تريد صندوق انتخاب آمناً وسليماً وله حصانة. فهل لدى شعوبنا شىء من ذلك؟ على أى حال إما الديمقراطية، وإما الخراب والعياذ بالله. تحية لذلك الفتى الأسمر النحيل الذى يحمل للعالم ولبلده أملاً حقيقياً فى التغيير.