البطولة حلم يراود الكثير من الناس.. فهو من الأمور التى يدعيها خلق كثير.. ويسعى إليها نفر قليل.. ومن يصدق فيها حقاً.. حقاً نادرون! ومن الأمور التى تفرق الصف الإسلامى الآن.. وجود أفراد يسعى كل واحد منهم إلى أن يكون هو الرجل الأول.. بطل المشهد.. أما الرجل الثانى فلا يرضى طموحاتهم ولا يشبع آمالهم! والمستقرئ منا للتاريخ الإسلامى يجد أن وراء كل بطل عظيم.. بطل آخر عظيم! ولكن يُقدر الله لبعض الأبطال الاشتهار فى الدنيا ولا يقدر لغيرهم من الأبطال، يدل على ذلك الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه عن أبى ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟! قال: تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ. فالإمام أبو حنيفة النعمان (80 - 150 ه = 699 - 767 م) – مثلاً- أحد أبطال المجال العلمى وهو إمام أهل الرأي، وصاحب المذهب الحنفى أحد المذاهب الفقهية الأكثر انتشاراً فى العالم الإسلامي، وقال عنه الإمام الشافعى (150 - 204 ه = 767 - 820 م): الناس فى الفقه عيال على أبى حنيفة! ورغم هذه المكانة الجليلة للإمام أبى حنيفة، إلا أنه لم يؤثر عنه كتاباً فى الفقه! ولكن تلاميذه هم الذين قاموا بنقل المذهب وتدوين آرائه ونشره بل والتخريج عليه، وخاصة الصاحبين: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الكوفى (113 - 182 ه = 731 - 798 م)، ومحمد بن الحسن الشيبانى (131 - 189 ه = 748 - 804 م). ففى المذهب الحنفى إذا قيل: الصاحبان: فهما أبو يوسف ومحمد. وإذا قيل: الثاني: يقصد به أبو يوسف. وإذا قيل: الثالث: يقصد به محمد. وهكذا قام المذهب الحنفى على أكتاف الرجلين الثانى والثالث فى المذهب! ولهما يُنسب الفضل فى بقاء المذهب وانتشاره. واشُتهر فى المجال العسكرى السلطان العثمانى البطل محمد الفاتح (833-886 ه = 1428- 1481م)، والذى استطاع فتح القسطنطينية بعد ملحمة تاريخية. ولكن فى فتح القسطنطينية كان هناك بطل آخر.. أو رجل آخر.. وهو الفاتح المعنوى للقسطنطينية الشيخ آق شمس الدين محمد بن حمزة الدمشقى (792-863 ه = 1389- 1459 م) والذى استطاع أن يقنع السلطان العثمانى منذ أن كان صغيراً بأنه المقصود بالحديث النبوي: (لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِير أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْش ذَلِكَ الْجَيْشُ) – رواه أحمد-. وحتى عندما واجه السلطان محمد الفاتح بعض الشدة والعراقيل فى الفتح بعد وصول سفن عسكرية مدد للبيزنطيين، أرسل إلى شيخه يسأله عن الحل، فكتب إليه شيخه برسالة جاء فيها: (هو المعزّ الناصر.. إن حادث تلك السفن قد أحدث فى القلوب التكسير والملامة وأحدث فى الكفار الفرح والشماتة. إن القضية الثابتة هي: إن العبد يدبر والله يقدر والحكم لله، ولقد لجأنا إلى الله وتلونا القرآن الكريم وما هى إلا سنة من النوم بعد إلا وقد حدثت ألطاف الله تعالى فظهرت من البشارات ما لم يحدث مثلها من قبل). وفرقة الإباضية تنسب إلى عبد الله بن إباض التميمى (توفى 86 ه =705 م)، ورغم هذه النسبة فإن عبد الله بن إباض ليس هو المؤسس الحقيقى للفرقة! فالمؤسس الحقيقى للفرقة هو جابر بن زيد (21 - 93 ه = 642 - 712 م) الملقب بأبى الشعثاء والذى وصفه أبو نعيم الأصفهانى بأنه: (كان للعلم عيناً معيناً، وفى العبادة ركنا مكيناً، وكان إلى الحق آيباً، ومن الخلق هارباً). فعبد الله بن إباض كان قد انشق عن الخوارج الأزارقة والتى كانت تتوسع فى تكفير المسلمين وتستحل أموالهم ودماءهم! فخرج عبد الله بن إباض عنهم واتخذ من جابر بن زيد معلما وإماما وقائدا، وكان لا يصدر فى النوازل إلا عن رأيه ونظره. غير أن جابر بن زيد رغم نقده للحكام الظلمة فى حلقاته العلمية، إلا أنه كان يؤثر البُعد عن المواجهة تجنباً لإثارة الفتن وحرصاً على الأسلوب السلمى فى الدعوة. بينما الرجل الثانى عبد الله بن إباض اشتهر عنه إخلاصه فى الدفاع عن الآراء والمبادئ التى تلقاها من معلمه جابر بن زيد، والجهر بها فارتبطت هذه الآراء – آراء جابر- بعبد الله بن إباض أكثر مما ارتبطت بجابر بن زيد. بل حفظ لنا التاريخ أن غياب هذا الرجل، الرجل الثانى قد يؤدى إلى ضياع مجهود كبير وشاق، بل وضياع المذهب بأكمله كما حدث مع إمام أهل مصر فى عصره، حديثاً وفقها، الليث بن سعد (94 - 175ه = 713 -791م) والذى قال عنه الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به! فلم يكن بجوار الليث أبطال أو رجال قاموا بصيانة مذهبه ونشره كما كان بجوار أبى حنيفة النعمان، فاندثر المذهب لغياب البطل الثانى أو الرجل الثانى. إننا اليوم فى حاجة شديدة للرجل الثانى بل والثالث والرابع بل والرجل رقم مليون.. لأن الجندية والقيادة طريق واحد.. طريق تمكين للفكرة.. فشتان بين من يدعو لفكرة وبين من يدعو لنفسه! فليس المهم من يرفع الراية.. ولكن أن تُرفع الراية.. فالدعوة أبقى من الداعية. والله من وراء القصد [email protected] أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]