النقد السياسى عنصر جوهرى فى أى نظام ديمقراطى، وهو ألزم ما يكون لإحداث التوازن بين السلطة والمعارضة، ومن مصلحة الشعب وحقه أن يستمع إلى ما توجِّهه المعارضة من نقد، وأن يستمع إلى دفاع السلطة الحاكمة عن نفسها، وأن يعرف أسباب ومبررات أى قرار يُتَّخَذْ.. بهذه الطريقة يستطيع الناس أن يفهموا حقائق الأمور، وأن يؤيّدوا أو يعارضوا عن بيّنة واستنارة.. ولكن الذى تفعله المعارضة فى مصر يستحيل أن يوصف بأنه نقد سياسى؛ لأنك إذا أردت أن تنتقد عليك أن تقدّم للناس حقائق، لا أكاذيب ولا ظنون ولا إشاعات، ولا حديث عن نوايا تتعلق بالمستقبل. وللأسف الشديد أكثر ما يُعرض على الناس من قِبَلِ المعارضة هو من هذا النوع الردىء.. فيه تضليل.. وفيه استباحة لأعراض الخصوم فى السلطة، وتشويه أشخاصهم وفكرهم وإنجازاتهم.. وفى الوقت الراهن يتركز الهجوم السياسى الإعلامى على محورين: (1) الدستور: مسودته ولجنته، (2) شخصية الرئيس محمد مرسى وسلوكه وإنجازاته؛ وما يمثله فى مخيّلة النخبة المعارضة؛ وأقصد بذلك جماعة الإخوان المسلمين وحزبها، وإطاره الإسلامى العام.. كل هذا مكروه ومرفوض لدى قيادات المعارضة بأطيافها وأيديولوجياتها المختلفة.. وهم مستعدون لارتكاب كل الحماقات لهدم الدستور ولجنته، والتخلّص من الرئيس فى أقرب فرصة وبأى ثمن.. بعضهم مثل حمدين صباحى لديه أمل أن يفوز فى أى انتخابات رئاسية بشرط أن تكون عاجلة، ولذلك طالب بضرورة إجراء الانتخابات بعد الاستفتاء على الدستور الجديد مباشرة، وهو هنا متناقض مع نفسه فهو تارة يصرُّ على ضرورة هدم لجنة الدستور وإبطال تشكيلها وعملها.. وتارة أخرى يطالب فقط بعدم وضع مادة استثنائية تسمح للرئيس مرسى باستكمال مدته القانونية.. كأنه يريد أن يحرمه من فرصة زمنية كافية لإنجاز وعوده للشعب، فيكسب ثقته وتأييده لفترة رئاسية ثانية.. أما السياسيون الآخرون فإنهم لا يتمتعون حتى بهذا الوهم، فهم يعلمون أن الجماهير قد لفظتهم من قبل.. ويشعرون فى قرارة أنفسهم أن وجودهم المنتفخ فى فضائيات وصحف الفلول لا رصيد له عند الجماهير التى تهيمن على صناديق الانتخاب بقوّتها الصامتة الغامضة.. خطاب هؤلاء السياسيين - فى عمومه- يذكّرنى بمخرج سينمائى قديم كان يُطْلَقُ عليه لقب "مخرج الروائع" هو "حسن الإمام"؛ لأنه أتحف الجماهير بأفلام من روايات نجيب محفوظ، حازت شهرة واسعة.. منها: "زقاق المدقّ"، والثلاثية (بين القصرين، وقصر الشوق، والسُّكَّرية).. ولكن فى زمن الانفتاح الاقتصادى خلال عهد السادات انْحَطَّ مستوى أفلام حسن الإمام، وزادت فيها عناصر الصياح والكلام الطويل والحوارات الصبيانية، على حساب الَّلفَتاتِ الذكية والإشارات الموحِيَة فى التعبير عن العواطف والمشاعر.. فلما سُئِلَ عن سبب هذا التّدنِّى قال ببساطة: "أنا أقدّم أفلامى الآن لجمهور متخلّف، أفرزته فترة الانفتاح التى جلبت إلى السينما جمهورًا عريضًا من الأميين وقليلى التعليم، الذين لا يتخطى نضجهم العقلى سن الثالثة عشرة، ولكنهم يملكون الثروة.. فهم زبائن السينما الآن". أكاد أجزم بأن ما يقوله السياسيون فى المعارضة لا يخرج عن هذه المقولة؛ فجمهورهم –كما يتخيّلونه- لا يتجاوز الثالثة عشر من عمره العقلى؛ يعنى صبيان على أول عتبة المراهقة.. مثل هذا الجمهور لا يهمه منطق الكلام وصدقه، ولا يعبأ بالأدلّة، وتنطلى عليه العبارات الفضفاضة، والأكاذيب، ويتأثر باصْطناع الحماس الأجوف والصوت العالى، والصور المُفَبْركة، وبقية هذه الحيل الدعائية المعروفة.. والتى يتميّزُ بها (الخطاب الاسْتخفافىّ). مثلاً.. يقول حمدين صباحى: "لسنا ضد الإخوان والسلفيين كإسلاميين، بل ضدهم لأنهم [يميلون] للاستبداد أكثر من الديمقراطية، وللاقتصاد الرأسمالى المتوحش أكثر من العدالة الاجتماعية، ولأنهم ضد أهداف الثورة".. كلام مطلق عائم لا يقدّم دليلاً واحدًا عليه ولا يستطيع.. لأنه لا يتحدث عن وقائع ملموسة، وإنما عن "ميول" لا تستطيع أنت ولا أنا أن نضع أصابعنا عليها لنتحقق منها.. أقول: "من السهل الرد على هذا بكلام هُلامى مثله.. فنقول: "لا.. بل إنهم لا يميلون للاستبداد، أو الاقتصاد المتوحِّش، وأنهم ليسوا ضد الثورة".. ولن نكلّف أنفسنا مشقة البحث عن أدلّة تدحض هذه المزاعم، فهى متوفرة لمن أراد أن يتحرِّى الحقيقة.. أنا لست بصدد الدفاع عن الإسلاميين.. فهم أولى بالدفاع عن أنفسهم.. إنما أعرض وأحلّل كمراقب مُحايد.. ثم أنتقل إلى نقطة أهم؛ فقد ذهب حمدين صباحى إلى ألمانيا يخطب فى مؤتمر للاشتراكيين، نظمته وأنفقت عليه (مؤسسة فريدريش إيبرت) الألمانية، ولِى على هذه المؤسسة كلام أُرْجِؤُه لمناسبة أخرى!.. وأكتفى هنا بتقرير أن هذه المؤسسة لها فرع فى مصر، له توجّهات ونشاطات فى التمويل والتدريب، أصبحت تحت المجهر منذ قضية التمويل الخارجى المشهورة، وقد عبّر رئيسها عن قلقه من بروز الإسلاميين فى السياسة المصرية، لذلك ذهب إليهم حمدين صباحى ليُطَمْئنهم ويُسَوِّق نفسه عندهم.. ويطلب دعمهم له كمنقذ من زحف الإسلاميين، وكمرشح قوى فى سباق الرئاسة القادم!. وهكذا.. يُروِّجُ صباحى لنفسه فى الغرب كبديل صديق، ويطمئنهم أنه قادر بشعبيته على إقصاء الإسلاميين من الساحة، ولكن يبدو أنهم يعلمون أكثر منه، فهم لا يصدّقون زعمه بأن الإخوان أقلية وأن التيار الشعبى هم الأكثرية، وأن الفرق الذى جعل الإخوان يفوزون فى الانتخابات أنهم أكثر تنظيمًا، وأنهم اعتمدوا فى اجتذاب الأصوات على توزيع السكر والزيت.. فهذا كلام قد يقنع به الصبيان فقط، ولكن لا يجد صدى عند العقلاء الناضجين.. وفى تصريح آخر يناقض صباحى نفسه فيقول: "إن التيار الشعبى المصرى لن يعمل فى السياسة فقط.. بل سيسهم فى حل قضايا اجتماعية وتبنِّى مشاريع تنموية، مستفيدًا من خبرة الإسلاميين".. يبدو أن الزيت والسكر فكرة عبقرية ذات جاذبية!. النموذج الثانى للخطاب الاسْتِخْفافى هو عمرو حمزاوى: الذى يقود حملة ضد الدستور، الذى تُعرض مسودته الأولى على أوسع نطاق الآن للمناقشة وإبداء الرأى فيها.. ولو كان جادًّا ويريد مصلحة الشعب والثورة – كما يزعم- لأدلى برأيه فى بنود هذا الدستور وقدَّم ما يراه من مقترحات لتعديلها، ولكنه بدلاً من ذلك راح يستعدى العالم الخارجى على مصر، ويستنجد بأمريكا وأوروبا لحماية "الدستور" من الإسلاميين؛ حيث أصدر بيانًا زعم فيه أن دستور مصر ليس قضية داخلية فقط!.. ولذلك دعا الأحزاب والتيارات السياسية والمنظمات المدنية بالتواصل مع (يقصد الاسْتنجاد ب) الدوائر الدولية والرأى العام العالمى [للضغط] على الإسلام السياسى، والمساهمة فى وضع دستور مصر [تصوّر أن مصر - مثل بوركينا فاسو- عاجزة عن وضع دستورها بنفسها!].. ملَوِّحًا بضرورة استخدام العقوبات الاقتصادية ضدها.. ثم كشف عن حقيقة دعواه وأهدافها عندما قال: هذه الدوائر الدولية تريد لمصر أن تلتزم بالعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وتضمن المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وأضاف أنها ستكون أداة للضغط على الإخوان لعدم التلاعب بالدستور.. يرى"مستر همزاوى" أن المواثيق، والمعاهدات الدولية، و"ضمير البشرية"(!!!) هو الحاكم على الدستور؛ وليست الشريعة الإسلامية.. وبالتالى فإنه فى حالة التعارض وجب الالتزام بالمواثيق الدولية، وطرْح الشريعة الإسلامية جانبًا.. لاحظ أن أبرز ما فى هذه الدعوة هو الاستقواء بالقوى الأجنبية ضد مصر وشعبها وشريعتها، أما باقى الكلام فهو كلام هلامى ومزاعم وأكاذيب تفنيدها سهل.. فقط لو يستطيع "مستر همزاوى" أن يدُلنا على مكان وجود ما يسميه [الضمير البشرى] لكى نسعد بإشراقاته ونتشرّف بمعرفته!!.. حمدين صباحى والبرادعى يُوَجِّهان حملة من العيار الثقيل للدستور الجديد، ويؤكدان أنه سيكون الدستور الأسوأ فى تاريخ مصر - وهما مثل آخرين- لا يقدمان دليلاً ملموسًا على مزاعمهما، وإنما كلام هلامى كالعادة، ولا يساهمان فى تقديم أى مقترحات إيجابية لإصلاح الدستور أو أى تعديل لبنْد من بنوده، بل يطالبان بهدم الدستور واللجنة المعنية، وتبديد الجهد والوقت الذى أنفقه عشرات من الرجال والنساء المخلصين.. ومنهم متخصِّصون على أعلى مستوى فى الخبرة.. ولن أدخل فى النوايا المبيَّتة وراء هذا الموقف العبثى المخرّب. والحقيقة أننى قرأت مسودّة الدستور قراءةَ من درس وتعرّف على دساتير أكبر وأشهر الديمقراطيات فى العالم، فلم أجد فيها ما يشين، بل ما يدعو إلى الفخر.. واندهشت للهجوم المشكوك فى دوافعه عليها.. ومع ذلك فهى ليست أكثر من مسودّة، معروضة للنقاش العام أمام جميع المصريين المخلصين، لكى يدلوا بآرائهم فيها ويقترحوا التعديلات اللازمة على بنودها.. فإذا تمَّت الصياغة النهائية سيُعرض الدستور على الشعب فى استفتاء عام ليقبله أو يرفضه.. وهذا عين العقل وعين الديمقراطية.. فأين هى إِذَنْ المشكلة، أو الكارثة كما يحلو للبعض أن يسميها؟!.. أعتقد أن المشكلة والكارثة الحقيقية لهذا الشعب المنكوب تكمن فى ضمائر قياداته المعارضة التى تُعلى مصالحها الشخصية وذواتها المتضخِّمة فوق مصلحة الأمة.. [email protected]