فى تاريخ كل ثورة وطنية رشيدة يحدث إرساء مشروع وطنى كبير بين أبناء الوطن تحت عنوان: ((الحقيقة والمصالحة)) يجرى من خلاله التصالح والتسامح بين أبناء الوطن عما جار فيه بعض أبنائه على بعضهم الآخر طوال عهد ما قبل الثورة، وذلك عن طريق إعلان وإقرار الطرف الذى جار على حقوق الطرف الآخر بأخطائه فى الماضى وتبُّرئه منها فى المستقبل.. وبهذا تصفو أجواء المجتمع من جديد لينطلق بعد ذلك فى بناء نفسه بسواعد كل أبنائه. وطوال عقود – منذ اعتلاء البابا شنودة كرسى بابويته إلى رحيله -، وبالتعاون والتوافق والتواؤم مع نظام مبارك الفاسد وأجهزة أمنه؛ فقد جرى الافتئات والجور على المسلمين والإسلاميين ورموزهم الدينية والعسف بهم، فى الوقت نفسه الذى كان يجرى تمييز ومحاباة وتدليل الأقباط ورموزهم الدينية، تمييزًا ومحاباة كانا من أهم أسباب ودواعى ما صار يعرف فى أجواء المجتمع المصرى طوال عهد شنودة ومبارك بالاحتقان الطائفى.. ونسوق هنا أمثلة قليلة من كثير ما كان يحدث طوال ذلك العهد الذى تطمح الثورة المصرية فى إنهائه وتجاوز آثاره الوخيمة على نسيج المجتمع المصرى الذى كان مثالاً للتسامح قبل أن يبتلى بهذين الرجلين: 1- التفتيش التعسفى لمساجد المسلمين ونهب محتوياتها واعتقال أئمتها، وعدم التجاسر على الاقتراب من الكنائس بإجراء مماثل أو شبيه. 2- اعتقال رموز وناشطى التيار الإسلامى حتى من غرف نومهم آمنين فى بيوتهم بملابس النوم، وعدم الاقتراب من الأقباط ولا قساوستهم. 3- نهب أموال وشركات المسلمين وإجهاض أى نواة لاقتصاد إسلامى، وعدم المساس بأموال الأقباط وهى أنهار تجرى فى أنشطة احتكارية أو شبيهة بالاحتكارية من سوق الذهب، وحتى مجال السياحة مرورًا بتوكيلات السيارات. 4- إرساء شكل جديد من أشكال الحصانة فى النظام القانونى غير الرسمى فى دولة مبارك، وهو الحصانة الدينية، وإسباغها فقط على زعماء ورموز الأقباط، بشكل ودرجة تفوقان حصانة القضاة القانونية فى القانون المصرى، وبشكل ودرجة تجعل من العسير بحكم الأمر الواقع سحب هذه الحصانة أو التقليل منها. 5- التدخل السافر فى أعمال القضاء، ويكفى التأمل فى قضية وفاء قسطنطين ودخول أرميا سكرتير البابا معها داخل غرفة التحقيق فى نيابة مصر الجديدة، والتضليل الإعلامى للتغطية على هذا الموقف المستهزئ بالدولة وبسلطاتها؛ تحت مقولة (حكمة البابا)!!. 6- سكوت الدولة وإغضائها عن كل الأعمال التنصيرية التى كانت تقوم بها المؤسسات الكنسية؛ رغم ما فى هذه الأفعال من مساس بالغ الضرر بالدولة المصرية وبشعبها المسلم، حيث الإسلام هو دين الدولة الرسمى الذى يتعين على الدولة حمايته من مثل هذا العبث به. 7- التمييز العلنى فى معاملة الرموز الدينية بما يسىء للمسلمين وينتقص من قدر رموزهم، حيث كان يجرى استقبال البابا فى المطار أسفل سلم الطائرة بسيارة خاصة ثم اجتيازه المطار من قاعة كبار الزوار، فى حين كان شيخ الأزهر يتجول على قدميه فى قاعات المطار بحثًا عن حقائبه ومتعلقاته الشخصية، وإنهاء إجراءاته كواحد فى طوابير الجمهور. 8- تسهيل الاستيلاء على أراضى الدولة وبمساحات شاسعة تقدر بآلاف الأفدنة وبالكيلومترات، وتحدّى القانون ورموز السلطة من المحافظين علانية فى ذلك، وإذا ظهرت من أحد المحافظين بادرة للتصدى لهذا العدوان السافر على الدولة كان الأقباط يقومون بتشكيل دروع بشرية تقف فى وجه الدولة وأجهزتها، مما يعجزها عن التصدى لهذا العدوان، والمثال الصارخ على هذه الحقائق هو دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر. والشاهد الفج على التمييز والمحاباة فى ذلك هو أن أحد الدعاة من الإسلاميين عندما حاول تعمير الصحراء بالشباب لإحياء الأرض (وهو واجب دينى إسلامى)، تم التصدى له بمنتهى العنف ودمرت أرضه وجرى اعتقاله ودُبجت له التهم المفتراة، ولبث فى معتقلات وسجون النظام الفاسد حينًا جزاءً على صالح عمله للوطن والمجتمع. وبعد؛ فهذه أمثلة قليلة لما كان يجرى فى ظل نظام فاسد ثار عليه الشعب المصرى ليطهر الوطن منه ومن آثاره.. وإن هذا التمييز الجائر المستخف بالشعب وبوحدته وتساوى أبنائه أمام الدولة والقانون كان من أهم دواعى ما عرفته مصر طوال عهد مبارك وشنودة من احتقان طائفى وفتن كانت تقلقل تماسك المجتمع المصرى المتسامح طوال تاريخه.. وقد صنعت الثورة المصرية فرصة تاريخية لأبنائها من مسلمين وأقباط حتى يتم لهم وبهم مشروع وطنى كبير للحقيقة والمصالحة، فيعلن أقباط مصر الشرفاء وباباهم الجديد ورموزهم الدينية المستنيرة تبرؤهم من هذه الممارسات فى المستقبل حتى يعود لمصر ما كانت تنعم به من سلام وتسامح قبل أن تبتلى بمبارك وشنودة. فإذا كان بعض وجوه هذا التمييز وتلك المحاباة هى من فعل النظام البائد؛ فقد ألقت به ثورة الشعب المصرى فى مزابل التاريخ إلى غير رجعة، وإن كان بعضها من فعل ضغط وإملاءات شنودة – مستقويًا بالغرب المسيحى – فعلى البابا الجديد وكل قبطى يحب هذا الوطن ويعى تاريخه المتسامح النقى أن يتبرأ من أفعال هذا الرجل التى أضرت بمصر مسلميها وأقباطها على السواء.