بصرف النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في مصر التي كانت محسومة سلفاً لأسباب عدة، فإنها تطور هام كان يمكن أن يصبح أكثر دلالة وأهمية لو لم تقترن بكل تلك القيود التي صاحبتها. هناك قوى سياسية مهمة أعلنت مسبقًا مقاطعتها للانتخابات اعتقادًا منها بأن القواعد المقررة تفتقر إلى الحد الأدنى من تكافؤ الفرص. المقاطعة في السياسة ليست خيارًا مثالياً، لكنها حينما تعتمد على مبررات موضوعية تصبح موقفاً سياسياً يجب احترامه ومناقشته، وليس السخرية منه. الاحترام يعنى الأمل في التحاور من جديد لإعادة ضبط قواعد اللعبة السياسية بالتراضي، خصوصاً أن لدى مصر انتخابات برلمانية مقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. وما لم تسفر تلك الانتخابات عن معارضة قوية وفاعلة في البرلمان سنصبح كمن يحرث في البحر، لأن وجود معارضة قوية يخدم الحزب الحاكم - أياً كان - ويوفر له حيوية حقيقية غير مصطنعة. كان خروج حزب الوفد على اتفاق سابق بالمقاطعة طعنة نجلاء للحزبين المقاطعين الآخرين. بالتأكيد حصل الحزب على تنازلات لاحقة من الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية كمكافأة. لا بأس. لكن هذا السلوك ستكون له أضرار لاحقة على التركيبة السياسية المصرية لأن الحزب الحاكم اعتاد طويلاً أنه والدولة كيان واحد، ولا طريق لتغيير ذلك إلا بتحرك جماعي للمعارضة في اتجاه تعديل قواعد اللعبة الديموقراطية بما يخدم الأحزاب والديموقراطية معاً. مشاركة الوفد في الانتخابات الرئاسية أعطى لها مسحة صدقية. لكن النتيجة العملية على ضوء ما جرى أصبحت هي أن الحزب الوطني ينافس نفسه أكثر مما ينافس معارضيه، على طريقة الملك جورج يفاوض الملك جورج. حتى في حملات التسويق السياسي، بدت الأساليب مستنسخة من بعضها البعض، وعملياً كلها مستنسخة من أساليب التسويق السياسي في الحملات الانتخابية الأميركية. في أميركا تطرح شركات الإعلان والتسويق والعلاقات العامة المرشح الرئاسي باعتباره سلعة أخرى كبقية السلع: مهم للغاية شكل المرشح، ومكياجه، وملابسه، وحواراته المنتقاة مع الآخرين المقررة له سلفاً، وشعاراته القصيرة المركزة، وتكرار ذلك مرة بعد مرة بعد مرة في وسائل الإعلام. حتى مدير حملة الوفد هو عضو بارز في الحزب الوطني الحاكم، وبعض الموعودين في حزب الوفد بفوائد لاحقة يرتبطون في مصالحهم التجارية بالحزب الحاكم. بمتابعة الأسبوع الأخير من الحملة الانتخابية، يلحظ المرء أن تسعين في المئة من المعلنين لصالح انتخاب الرئيس حسنى مبارك هم وكلاء الشركات الأجنبية في مصر ورجال «البيزنس» الذين حصلوا من البنوك على تسهيلات وقروض بمئات الملايين بنفوذ سياسي من الحزب الحاكم، وهم بالطبع يتطلعون إلى المزيد في السنوات الست المقبلة. الكل قطاع خاص. الكل رجال «بيزنس». أما رجال الأعمال الحقيقيون الذين صنعوا ثرواتهم بكد وعرق، فعزفوا عن المشاركة السياسية بأي قدر، على طريقة «أبعد عن الشر... وغنِّي له». في هذه الانتخابات بدا صوت المال هو الأعلى بكل تأكيد، والأكثر تأثيراً وحركة على نحو غير مسبوق. هذا في حد ذاته نذير بما سيتكرر لاحقاً في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. انعكس هذا أيضاً على برامج المرشحين الثلاثة المتقدمين بين العشرة في انتخابات الرئاسة. كلهم منحازون بشدة، وبلا تحفظات، إلى اقتصاد السوق بمفهومه الأميركي. كلهم متحمسون بشدة لبيع وخصخصة ما تبقى من القطاع العام حتى لو كان هذا البيع لأجانب، بل ومن الأفضل أن يكون البيع لأجانب. كلهم معادون للقطاع العام على أي مستوى وكارهون لأي مسؤوليات اجتماعية يلتزم بها القطاع الخاص، ورافضون لأي حديث عن حد أدنى من العدالة الاجتماعية مهما كان هذا ضرورياً للسلام الاجتماعي. كلهم يبحث عن علاقة تبعية للرأسمالية الدولية حتى ولو كان هذا يعني عودة مصر إلى الوراء مئة عام... بل وحتى لو تفاقمت أزمة البطالة الطاحنة في مصر حالياً كما لم يحدث من قبل طيلة قرن كامل. الحزب الحاكم مثلا، حاول التحدث في البرنامج الرئاسي عن مواجهة مشكلة البطالة، لكن حديثه لم يكن مقنعاً ولا مدروساً ولا جاداً، ولو لمجرد أن مجمل سياساته السابقة في السلطة هي تحديداً التي خلقت وفاقمت أزمة البطالة. لكن الأهم من كل شيء أنه تفادى تماماً الرد على السؤال الجوهري: كيف يعد البرنامج الرئاسي للحزب بإقامة ألف مصنع جديد في السنوات الست المقبلة، بينما يمضي بأقصى سرعة في بيع المصانع القائمة الرابحة؟ وزير الاستثمار في حكومة الحزب الحاكم تفاخر بأن حكومته باعت خلال سنة واحدة ثلاثة أضعاف ما جرى بيعه في السنوات الخمس السابقة عليها. أكثر من ذلك، مضت الحكومة في تقديم المزيد والمزيد من الالتزامات للولايات المتحدة، كما لو أنها وحزبها مستمران في السلطة تأكيداً. قبل يومين فقط من انتخابات الرئاسة، أعلن رئيس الوزراء أحمد نظيف أن حكومته ستقوم خلال الفترة المقبلة بإعادة هيكلة قطاع الإعلام وإنشاء جهاز مستقل لهذا القطاع، والفصل بين تقديم الخدمة الإعلامية والجانب التنظيمي. الترجمة: بدء خصخصة الإعلام المصري.. هكذا من دون لف أو دوران. التزام أكبر كثيراً من قدرة حكومة يفترض أنها في أيامها الأخيرة أو أنها تتحسب لتغيير مقبل في الخريطة السياسية، فضلاً عن أن خصخصة الإعلام في حد ذاتها تستلزم نقاشاً عاماً تحسباً للتسرع والفساد الذي عانى منه الناس من قبل في مشروعات كبرى. الأكثر دلالة هنا أنه في برامج كل المرشحين الرئاسيين العشرة، اختفت تماماً أي إشارة إلى مكافحة الفساد، وهو الوباء الذي أصبحت تعاني منه الدولة... من أعلاها إلى أسفلها. ربما في هذا الخصوص يتحمل الحزب الحاكم مسؤولية أكبر من غيره بحكم وجوده في السلطة لأكثر من ربع قرن. في الإعلام المكتوب فقط، انكشفت حالات فساد ببلايين الجنيهات في المؤسسات الثلاث الكبرى. وحين جرى التغيير أخيراً في المناصب الصحافية، ثبت بالدليل القاطع أن القيادات السابقة لم تقم فقط بتجريف مئات الملايين من الجنيهات لتستقر في جيوب حفنة أشخاص، بل تأكد أيضاً أنهم مارسوا طيلة الأعوام العشرين الماضية، سياسة منهجية للتخلص من كل موهبة صحافية تستعصي على الفساد، مع الحرص على تهجير مَنْ تبقى وإفساد مَنْ أحنى رأسه. من المهم هنا أن نتذكر أيضاً أن تلك التغييرات الصحافية لم تتم عن رغبة أو اختيار، بل اضطراراً واستباقاً لأحكام قضائية تقرر أن المستمرين في مناصبهم خارجين على القانون. وكما هو متوقع لم يأتِ اختيار خلفائهم - وباستثناء حالتين أو ثلاث - بناءً على معيار الكفاءة، بل الولاء المطلق لأطراف محددين في الحزب الحاكم. الفساد في حالنا هذه ليس سوى صورة مصغرة للفساد الأكبر. وإذا لم تفتح ملفات الفساد كاملة بعد الانتخابات، فهذا يعنى في نظر كثيرين إصراراً أكيداً على حماية شركاء في مراكز السلطة العليا، وهذا ما يروج له الفاسدون أنفسهم. في تسويق انتخابات الرئاسة في مصر، كان ملحوظا التطور الحاد في الموقف الأميركي. في البداية، كان حاداً وغير مسبوق في انتقاداته اللاذعة العلنية لما يجري في مصر. في إحدى المراحل ألغت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس زيارة مقررة إلى مصر احتجاجاً على حبس أحد الشخصيات السياسية في قضية جنائية. الانتقادات العلنية بلغت الذروة في خطاب الوزيرة الأميركية في الجامعة الأميركية في القاهرة في حزيران (يونيو) الماضي، حين قالت، ضمن تنبيهات أخرى، أنه «يجب على الحكومة المصرية أن تفي بالوعد الذي أعطته لشعبها وللعالم كله بمنح مواطنيها حرية الاختيار. إن الانتخابات في مصر، بما في ذلك الانتخابات البرلمانية، يجب أن تفي بالمقاييس الموضوعية التي تحدد كل انتخابات حرة، ويجب أن تتمتع جماعات المعارضة بحرية الاجتماع والمشاركة والتحدث إلى الإعلام. كذلك يجب أن تكون لمراقبي وملاحظي الانتخابات الدوليين حرية التحرك بلا قيود». كان هذا في حزيران (يونيو). أما في أيلول (سبتمبر)، عشية انتخابات الرئاسة في مصر، جاء وفد من الكونغرس الأميركي من عشرة أعضاء جمهوريين وديموقراطيين على رأسهم مسؤول لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب توم ديفيز، الذي صرح أمام الكاميرات بأن «هذه الانتخابات الرئاسية التنافسية في مصر خطوة تاريخية سيكون لها تأثيرها، ليس على مصر فحسب، وإنما على العالم أجمع من ناحية التحرك في اتجاه الديموقراطية». وأشار إلى أن عملية التحول الديموقراطي في الولاياتالمتحدة استغرقت مئتي عام حتى وصلت إلى الشكل الراهن، وبالتالي لا يمكن القيام بكل الخطوات في اتجاه التحول الديموقراطي مرة واحدة. في حزيران (يونيو)، عبأت في مصر الأصوات التي تستلهم وحيها من السياسة الأميركية لكي تستقوي بها في شن الحملات الضارية ضد السلطة المصرية. الحملات يمكن أن تكون في الفارغة والملآنة. لكنها في حالتنا تلك كانت غالبيتها «في الفارغة». شتائم... شتائم... شتائم، لكن لا نقد في العمق لأي من أوجه الخلل الفادحة في العلاقة المصرية - الأميركية. وفي حينها، خلافا لما هو ظاهر، بدا هذا مناسباً تماماً للسلطة المصرية. ومع تحول اللهجة الأميركية جذرياً عشية انتخابات الرئاسة، أصبحت تلك الأصوات نفسها كما النسيم العليل. الفارق الأميركي بين تنبيهات حزيران وتهنئات أيلول، لا يعود بالطبع إلى فصاحة المتحدثين باسم السلطة والحزب الحاكم في مصر. وانما يعود إلى اعتبارين طارئين. أولاً: تفاقم الموقف في العراق بما لم يعد يسمح للولايات المتحدة بالاستمرار في المكابرة بأنها تصنع هناك نموذجاً للديموقراطية قابل للتصدير إلى العالم العربي. إذن مصر هي البديل الذي يضيفه الرئيس جورج بوش لاحقاً إلى قائمة إنجازاته المدعاة نتيجة غزو العراق واحتلاله. وثانياً الأكثر أهمية: التزامات وتعهدات جديدة تلقتها الولاياتالمتحدة من مصر بأن تصبح المرحلة المقبلة هي مرحلة كسر المحرمات... أو ما تبقى منها. ابتداء من السياسة إلى الاقتصاد إلى العلاقة مع إسرائيل. لو صح هذا التقدير، تكون الخطورة الحقيقية. فمن اللحظة الأولى لم أعتقد في أي وقت أن الولاياتالمتحدة تريد في مصر ديموقراطية حقيقية هي نفسها تعرف نتائجها على مشاريعها في المنطقة. طرحت جريدة «فايننشيال تايمز» اليمينية البريطانية أخيراً في افتتاحية لها المسألة على النحو الآتي: ما هو مدى الديموقراطية العربية الذي يمكن للولايات المتحدة أن تتحمله؟ والإجابة عندي هي: أميركا تتحمل فقط قدر الديموقراطية الذي يتوسع بمصالحها في المنطقة. فإذا تضاعفت البطالة أو تزايد الغاضبون، فعلى الحكومات المحلية قمعهم وإعادتهم إلى حظيرة الطاعة والإذعان، بينما الولاياتالمتحدة تدير وجهها في الاتجاه الآخر. الشهور القليلة المقبلة ستكون فاصلة في كل هذا، أما في اللحظة الراهنة فإن ما يستحق التأمل والدراسة فعلاً هو نسبة المشاركة الفعلية للمصريين في انتخابات الرئاسة، ومن بعدها الانتخابات البرلمانية. --- صحيفة الحياة اللندنية في 10 -9 -2005