لم أكن أتمني أن تجىء نتائج انتخابات الرئاسة بهذا التفاوت المعيب في عدد الأصوات بحيث تضخمت نسبة أصوات الفائز حتي اقتربت مما تعودنا عليه في استفتاءات الرئاسة السابقة، فرغم النجاح الأكيد الذى تحقق لهذه التجربة الوليدة التي أدخلتنا عصراً جديداً إلا أن ما بدا أنه تحقق في النهاية من جراء تعديل المادة 76 من الدستور هو مجرد تغيير نسبة أصوات الفائز من 99% إلي 5.88%. إن الفارق الحقيقى بين النظام الديمقراطى القائم علي التعددية والنظام الأحادي الذي لا يسمح بالتعدد هو أن النظام الديمقراطى يعبر عن تنوع الآراء الذى هو سنة أي مجتمع بشرى، لذلك لا يمكن لأي مرشح مهما كان هناك إجماع شعبى عليه أن يحصل علي 90% أو ما يقرب منها، لأن ذلك يعنى أن الانتخابات لم تعبر بالقدر الكافى عن الاتجاهات الأخري التي لابد أنها موجودة في المجتمع. ونحن ندرك بالطبع أن الانتخابات الأخيرة كانت لها ظروف خاصة لم تسمح بتبلور الرأي الآخر بالقدر الذى يسمح له بأن يحصل علي نسبة معبرة عن حجمه الطبيعي في أي مجتمع، فقد تقرر خوض الانتخابات بأكثر من مرشح قبل الانتخابات بأشهر معدودة لم تكن كافية لإعداد أفضل المرشحين، يضاف إلي ذلك أن الأحزاب المعارضة لم تتمكن حتي الآن من أن تصبح هي البديل الحقيقى للنظام الحالي، وهكذا وجدناها لم تحصل علي أى تأييد يذكر فى الانتخابات، وكانت أعلي أصوات المعارضة هي تلك التي ذهبت لمرشح حزب الغد الذى يمثل التمرد علي الأوضاع القائمة أكثر مما يمثل المعارضة السياسية بالمعني المفهوم الذى يقوم علي وجود فلسفة سياسية متمايزة وبرنامج انتخابي متكامل، وليس مجرد حزمة من الوعود البراقة، لذلك فقد كان هذا التصويت بمثابة احتجاج علي الأوضاع القائمة أكثر منه تعبيراً عن سياسة معارضة. والحقيقة أن تلك الضوابط المانعة للترشيح التي كبلت بها المادة 76 من الدستور بعد التعديل واعترضت عليها جميع القوي السياسية في البلاد بمن في ذلك بعض أعضاء الحزب الوطني نفسه كانت هي المسئول الأول عن غياب ثقة الناخب في العملية الانتخابية وإحساسه بعدم جدواها، وبالتالي انصراف 77% من الناخبين عن التصويت ولم يشارك في العملية الانتخابية إلا 23% فقط ممن لهم حق الإدلاء بأصواتهم، وأنا أكثر ميلاً للاعتقاد بأن السبب في حصول مرشح الحزب الوطني علي تلك النسبة غير الطبيعية في أي انتخابات ديمقراطية هو أن أكثر من ذهبوا للتصويت كانوا ممن جيشهم الحزب الوطني للتصويت لمرشحه وليس بسبب ما يمكن أن يكون قد تم من تلاعب في نتائج التصويت، فمثل هذا التلاعب قد يكون مسئولاً في حالة ثبوته عن نسبة من هذه الأصوات وليس عنها كلها، وقد كان حسني مبارك سيحصل علي نسبة مرتفعة علي أي حال للأسباب سالفة الذكر، وتلك النسبة المتضخمة هي ما تدعونا للقلق أكثر من أي شيء آخر. لقد كان فوز الرئيس مبارك متوقعاً ليس فقط عندنا في الداخل، وإنما أىضاً في الدوائر العالمية، لكن الحقيقة أننا كنا نتمنى ألا تجىء نتيجة هذا الفوز في محيط ال90% أو حتي ال80%، وهذا ليس انتقاصاً مما يمثله الرئيس مبارك ولا تجاهلاً للاتجاه الغالب بين الناخبين لتفضيله علي باقى المرشحين، وإنما هو حرص علي مصداقية العملية الانتخابية، وضماناً لحيوية الحياة السياسية التي لا شك أنها تنشط أكثر وتنتعش في ظل وجود معارضة قوية تقوي بدورها نظام الحكم ذاته، ولقد شهدنا في الانتخابات الأمريكية الأخيرة مثلاً كيف أن بعض مؤىدي الرئيس بوش أنفسهم عبروا في بعض وسائل الإعلام عن رأي يقول بأنهم كانوا مرتاحين إلي أن بوش قد نجح بأغلبية ضئيلة لأن مثل هذا النجاح سيؤدي بالضرورة لترشيد سياساته التي كانت قد تطرفت كثيراً في فترة حكمه الأولي باتجاه اليمين المحافظ حتي وصلت إلي مرحلة العدائية الوحشية للاتجاهات الأخري، ولم تتوان عن أن تعبر عن نفسها بالحرب السافرة التي شنتها في أفغانستان ثم في العراق وكان يخشى حتي من جانب مؤيدى بوش أن تمتد تلك العدوانية إلي سوريا أو إيران أو غيرهما، أما فوز بوش بما لا يزيد إلا قليلاً عن نصف الأصوات فقد جعل الإدارة الجديدة للرئيس بوش أكثر استجابة بلاشك للرأى الآخر الذى يكاد يمثل نصف أبناء الشعب الأمريكى، ولقد أحسن بوش قراءة نتائج الانتخابات التي اقتسم فيها الأصوات مع منافسه الديمقراطى جون كيري، فأعلن في أول تصريح له بعد الانتخابات أن مهمته الأولي ستكون رأب صدع الأمة التي انقسمت في رأيها ما بين المرشح الجمهوري والمرشح الديمقراطي، وما نشهده اليوم علي سبيل المثال من تعقل نسبي في السياسة الخارجية للإدارة الثانية للرئيس بوش ليس إلا نتاجاً مباشراً للحجم الكبير الذى حصل عليه منافسه في الانتخابات مما جعل بوش يشعر بأنه غير مطلق اليد تماماً فيما يفعل وأنه رغم تأىيد الغالبية له فإن هناك نسبة كبيرة من الناخبين لا تتبعه تبعية عمياء. ونحن في مصر بالطبع لا نعاني والحمد لله من التهور السياسي الذى اتسمت به إدارة بوش خاصة في فترة الرئاسة الأولى، فلاشك أن الرئيس مبارك يتمتع بقدر من التعقل والحكمة يفوق ما يتمتع به الرئيس الأمريكى، بل إننا إن كنا نخشى من تطرف ما فهو تطرف في الاتجاه العكسى، أي ليس في اتجاه الحركة الطائشة وإنما في اتجاه عدم الحركة ومحاولة إبقاء الأمور علي ما هي عليه، صحيح أن الرئيس مبارك قد تحدث كثيراً وفي مناسبات متفرقة عن ضرورة التغيير والإصلاح بل وتعدي مرحلة الحديث إلي اتخاذ القرارات ومنها قراره الأخير بتعديل المادة 76 من الدستور، وقد جاء بيان مبارك الانتخابى واعدا بتحقيق هذا التغيير وذلك الإصلاح من خلال مزيد من التعديل لمواد الدستور ومن خلال إعادة النظر في العلاقة بين السلطة الدستورية والسلطة التنفيذية وإعادة النظر أىضاً في سلطات رئيس الجمهورية نفسه، وهي جميعاً مطالب لم نكن نتصور منذ أشهر غير بعيدة أن تأتي ضمن البرنامج الانتخابي لمرشح الحزب الوطني الحاكم، وهذا يعني بوضوح أن تلك النسبة الهائلة التي انتخبت الرئيس مبارك لم تفعل ذلك طلباً لاستمرار الأوضاع علي ما هي عليه وإنما طلب لتلك الإصلاحات التي وعد بها الرئيس وثقته في أنه قادر علي تحقيقها، لكن الحقيقة أن ضابط الإىقاع في تنفيذ أي سياسة هو دائماً المعارضة، فإذا جاءت المعارضة قوية كان ذلك ضماناً ليس فقط لترشيد السياسات وإنما أىضاً لسرعة إنجاز مثل هذه التغييرات التي لن تجىء إلا بقرارات صعبة تتطلب قدراً كبيراً من الجهد والقوة وربما أيضاً بعض الضغوط الشعبية التي هي من صميم عمل المعارضة. لقد كنت أتمني أن تزيد أصوات المعارضة على تلك النسبة الضئيلة التي حصلت عليها وتعتبر جرس إنذار يحذرنا جميعاً من أن اللعبة الديمقراطية منذ بدأت قبل ثلاثين عاماً بالتعددية الحزبية لم تصل بعد إلي مرحلة النضج الذي يجعل الناس يأخذونها مأخذ الجد، لقد نجح مرشح حزب الغد في أن يتمرد علي الأوضاع القائمة فحصد نصف مليون صوت لكن الديمقراطية ليست هي التمرد أو العصيان المدنى، إنما تتخطى ذلك لتقدم رؤية متكاملة لمستقبل البلاد يقوم علي برنامج سياسي محدد توضع علي أساسه السياسات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا تعتمد فقط علي بعض الوعود الانتخابية المتفرقة، ولا شك أن حزب الوفد كان أكثر من اقترب من بين جميع المرشحين التسعة المعارضين من تحقيق ذلك لكن حجم الأصوات التي حصل عليها تشير إلي أن علينا جميعاً إعادة النظر في حياتنا السياسية بما يسمح بمزيد من الممارسة الديمقراطية إطلاقاً لتلك الأصوات المكبوتة التي مازالت محجمة عن المشاركة وإن شاركت فهي تشارك بالصراخ والاحتجاج والتمرد، وليس بالفكر والسياسات التي تبني المجتمع، وربما كانت بداية الطريق هي ما التزم به جميع المرشحين بمن في ذلك الرئيس مبارك من تعديل للدستور وتقليص سلطات رئيس الجمهورية وإلغاء القوانين الاستثنائية وما يستتبع ذلك بالضرورة من إطلاق حرية تكوين الأحزاب وحرية إصدار الصحف، فبدون ذلك سنظل أسري للاستفتاءات القديمة ونتائحها غير الطبيعية سواء كانت 98% أو 88%. ------- صحيفة الوفد المصرية في 14 -9 -2005