تعلمنا فى دراستنا للتاريخ أن المجتمعات كائنات تتطور كالأفراد.. فتنهض أحيانًا وتتعثر فى أحايين كثيرة، وفى كل الأحوال كانت الثقافة هى مؤشر النهضة والتحضر، فمن خلالها نتكهن بالمرفأ الأخير لقطار النهضة، وأن المجتمعات عندما تتجاهل الدين ربما تتقدم ولكنها تموت فجائيًا ودون مقدمات، وأن مآلها الاستعمار والتآكل.. وإذا كانت دولة رهبانية وقطيعة للعلم؛ تأخرت وتوقفت تروس التقدم فيها.. وتعلمنا أن الدول إذا تجاهلت العلم تخلفت حتى وأن ُطبقت الأديان نصًا فيها.. ولكن عندما وافق العلم الدين فصار العلم منهاجًا والدين ثقافة حرة بات العمل والتقدم ابنًا شرعيًا بارًا لتزاوج الدين مع العلم، وأصبح التقدم سمة لهذه الشعوب، ولعل اليابان خير شاهد على تقدم الدولة التى جعلت للعمل أخلاقًا تدرس فى المناهج التعليمية، أخلاقًا مصدرها الدين ومحركها العلم.. وكذلك تعلمنا أن المجتمعات تقدمت عندما سَيَّدَت العلم وجعلته معيارًا لاتخاذ القرار وموجهًا لكل خططها وفى كل المجالات، وبذلك تقدمت أوروبا بعد ثورتها الكَنَسِيَة بزعامة مارتن لوثر الذى دعا إلى إحلال سلطة العلم كبديل للسلطة الكنسية فى أوروبا، ومنذ ذلك الوقت تخلصت أوروبا من كل أروقة التخلف وعاشت فى قصور النهضة والتقدم والهيمنة العالمية.. وعندها استشعر المواطن فى أوروبا بقيمة ثورته وحصد نتائج تضحياته، استشعرها عندما ذهب إلى المدرسة ووجد فيها مناهج تعليمية ونهضوية متزنة، تلمس واقعه وترسم بإتقان مستقبله، استشعر بنتائج الثورة عندما ذهب إلى المستشفيات العامة ولم يجد ثمة فارقاً يذكر بينها وبين مستشفيات القطاع الخاص، استشعرها عندما تراجعت معدلات الإصابة بالأمراض المستوطنة، وفى انخفاض حوادث الطرق وفى علاقة رجل الأمن برجل الشارع، استشعرها عندما وجد الدين سلوكًا يمارس وليس قانونًا يفرض.. استشعرها عندما وجد تحت قبة البرلمان رجالاً قد انتخبهم عن جدارة واستحقاق وليس لمعيار دينى أو عرقى فقط.. رجالاً يتكلمون بلسانه ويعملون على مصالحه؛ ومن ثم فلا حاجة للمواطن بالحديث فى السياسة العامة، فهناك شخوص قد انتخبهم لهذا الشأن يفكرون لصالحه ويسهرون على أمنه وراحته، وليس على المواطن سوى الالتزام بواجباته فقد كفل له الدستور حقوقه وأشرف البرلمان على إنفاذها وحمايتها، وأصبحت المجتمعات عبارة عن أروقة وقباب لممارسة السياسة وشعوب تعمل وماكينات تنتج ونهضة تتحقق على الأرض يلمسها الدانى ويشهدها القاصى. والآن أتساءل: أين نحن من هذه الثورات وما إرهاصات نجاح ثورتنا؟، وهل تقييمنا للثورة كان عن موضوعية أم خوفًا من الهزيمة وشماتة الفلول؟، فقد لاحظت بشوارعنا أن الناس متعطشون للدين أكثر من تعطشهم للتنمية والتقدم وكأن ثورتنا لم تكن ثورة ضد الفساد والعدل المغيب بل ثورة من أجل الدين.. فلا ضير أن يكون الامتثال للشرع هدفًا؛ فالأديان هى روح المجتمع ومصدر استقامته، ولكن لماذا ارتفعت معدلات الجريمة بعد الثورة للدرجة التى تهدد مستقبلها برمته رغم موقف الدين منها؟، لقد ثُرنا من أجل القضاء على الفساد وإعلاء قيمة العلم واستعادة كرامة الوطن ومكانته بين الشعوب.. فلماذا زج بالدين فى كل حواراتنا؟.. ولماذا نضع العلم دائمًا مقابل الدين؟، وإذا كان الإسلام فى كنهه عقيدة علم وعمل، فلماذا لا يكون العلم والدين فى قاطرة واحدة تجرنا نحو مستقبل أفضل؟، فمن المُلفِت للنظر أن معظم المعارك السياسة الآن ليست لخلافات حول سبل الإصلاح وآليات النهضة وإنما معارك فكرية كان الدين معقلها.. وكأن مشكلة نظام مبارك فقط كانت فى بعده عن الدين وليس فى فساده ولا فى الوضع الاجتماعى والاقتصادى الذى عاشه المواطن المصرى فى كل مجالات الحياة.. فويل لأمة تنطلق من الدين إلى المذهب، ومن الحكمة إلى المنطق، ومن الحقل إلى الزقاق.. ويل لأمة تأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر، وتلبس مما لا تنسج.. ويل لأمة تحسب الزركشة فى غالبيتها كمالاً، والقبح فيها جمالاً .