كلما وقعت كارثة بسبب إهمال أو تقصير أو فساد في أي قطاع من قطاعات الدولة، سارع الرأي العام إلى المطالبة بإستقالة الوزير المسئول عن ذلك القطاع، عملا بالتقليد المتبع في الأنظمة الديموقراطية والإدارية الحديثة في الدول المتقدمة والتي يتحمل فيها أكبر مسئول مسئولية أصغر خطأ يقع في دائرة إختصاصه. ويعتبر الرأي العام في مصر أن محاسبة أي شخص خلاف من يجلس على رأس الإدارة ليس سوى تقديم كبش فداء حتى يبقى المسئول الكبير بعيدا عن المساءلة والعقاب، وهذا حقيقي إلى حد بعيد. لكن السؤال هو إلى أي مدى يجب أن تصل المحاسبة حتى لايكون المحاسب مجرد كبش فداء؟ أخشى ما أخشاه أن الرأي العام الذي يصر ويحلم دائما بإستقالة المسئول الكبير – الوزير – يقف من هذا التقليد عند حدود الشكل، دون إدراك حقيقي لمعنى إستقالة الوزير ودوافعها وآثارها. إن الفارق الجوهري في المضمون بيننا وبين البلاد التي نعنيها هو أن تلك البلاد لديها منظومة عمل وأداء ورقابة ومحاسبة منضبطة، يؤدي كل فرد فيها دوره على الوجه الأمثل. ومن ثم فعتدما يقع تقصير أو إهمال أو خطأ أو فساد في أي جانب من جوانب المنظومة بما يخل بها ويكبد الجميع خسائر فادحة، فإن الحافز الداخلي لدي الفرد والإنسجام الخارجي بين الجماعة يحملهم جميعا على النظر إلى الرأس المسئول عن القطاع الذي وقع فيه الخلل بإعتباره الملوم في النهاية بتراتب المسئولية. كذلك فإن فارق آخر جوهري بين هنا وهناك يتصل بقيمة ومفهوم العمل في المجتمع، إذ بينما يرتبط أداء العمل وإتقانه في الأمم المتحضرة بكيان الإنسان وشرفه وكرامته بما يجعل تفصيره فيه عنصر ضغط رهيب أدبي وأخلاقي يدفع كل من تمت له المسئولية بصلة أن يبادر بتقديم رقبته للمجتمع الذي حمله الأمانة. فإن قيمة ومفهوم العمل في بلادنا بعيدة كل البعد عن المثال السابق وتكاد تنحصر بالأساس في كونه وسيلة إرتزاق بالنسبة للبسطاء ومصدر نفوذ ووجاهة بالنسبة للكبراء. وإذا كان الأولون يقبعون في ذيل سلم المسئولية ولا يملكون أساسا ترف التفريط في مصدر العيش، فإن الأخيرين يفقدون كلية الوازع والدافع الذي تشكله قيمة ومعنى العمل المفتقدة لدينا والتي تفسر عدم ورود فكرة الإستقالة على بال المسئول الكبير لدينا حتى لو إختلت كل الوظائف وأهدرت الأمانة التي أنيطت به. وإذا حدث وأقدم مسئول على الإستقالة فلابد أن ندرك أن نوافعه هنا تختلف عن دوافع نظيره في البلاد المتقدمة، فمسئولينا يستقيلون إما تحت ضغط عارم من الرأي العام أو إستشعارا لحرج يهدد النظام بحاله أو حتى كمجرد محاكاة للتقليد المتعارف عليه في العالم المتحضرم. حيث توجد المنظومة وتوجد الإستقالة عند الخروج عليها أو الإخلال بها، وكأن وجود الإستقالة عندنا يعني وجود المنظومة. نحن لا نهون هنا من ضرورة إستقالة المسئول الكبير إذا وقع أي خطأ أو إهمال أو تقصير في نطاق مسئولياته المباشرة والغير مباشرة. لكننا نلفت الأنظار إلى أنه ما لم يكن لدينا منظومة العمل والأداء والإدارة والمراقبة والمحاسبة والمتابعة المنضبطة والصارمة وما لم يكن لدينا مفهوم وقيمة للعمل ترتبط بكيان الإنسان وكرامته وشرفه، وليس فقط برزقه أو بنفوذه وحظوته، وتجعل من العمل شيئا وواجبا مقدسا بالمعنى الحرفي للكلمة يفقد الإنسان إذا ما هو قصر أو فرط في أدائه الجزء الأعز والأقيم من شرفه وذاته وكرامته، نلفت الأنظار إلى أنه ما لم يكن لدينا هذه القاعدة في النظام والمفاهيم فسوف تبقى إستقالة أي مسئول – مهما كبر – مجرد تضحية بكبش فداء، بدون أثر حقيقي على تحسين الأداء أو تلافي الأخطاء والكوارث في المستقبل، لأن النظام باقي كما هو.