إنتشرت في الآونة الأخيرة أخبار عن وجود تسعيرات تبدأ من 25.000 جنية للحصول على الدكتوراة ، وتتدرج صعوداً حسب نوع التخصص ، وهذا الخبر بالتأكيد ليس شائعة ، فقد تناقلته الصحف منذ فترة ، وكان أول من تطرق إلى هذا الموضوع أ / لبيب السباعي في باب "شباب وتعليم " بجريدة الأهرام منذ عدة شهور ، وإهتم بالأمر الدكتور زكريا عزمي بصفته عضواً في البرلمان ، ومؤخراً أشارت إليه صحيفة المصريون ، وفي إعتقادي أن الأمر ليس مستغرباً إلى هذه الدرجة إذا طرحنا من جديد أسباب خروجنا من التصنيف العالمي لأفضل 500 جامعة في العالم ، وهذا التصنيف أبداً لم يأت من فراغ ولا مجاملة لأحد ، ولكنه ولا شك يتطرق في المقام الأول إلى البحث العلمي في الجامعات ومدى إستفادة المجتمعات من هذه البحوث ، وهل هي بحوث بناءه يُستفاد منها أم إنها فقط " قص ولصق " أو كما يسمونها " إعادة إنتاج العلم " . وتفسير ذلك إنما يرجع في المقام الأول إلى عدم تقدير الدولة لأساتذة الجامعات الذين هم صفوة علماء المجتمع المصري ، فكيف يستطيع أن يعيش أستاذ جامعي بمثل الرواتب المعدومة التي يتقاضونها ، وكيف ينفق على أبحاثه وتجاربه ومراجعه لو لم يكن لديه راتباً يفي بجميع متطلباته العلمية والحياتية . إن من حسنات بني أمية إتاحة مساحة من الحرية والإحترام للعلماء ، فعندما قيل لأحد العلماء " أفسح مجالاً بجانبك لأمير المؤمنين " رد عليهم العالم الجليل قائلاً " فليجلس أمير المؤمنين حيثما إنتهى به المجلس " ، ولهذا الأمر دلالة كبيرة على مدى تقدير الدولة الأموية للعلماء ، ولو لم تتيح الدولة مثل هذه الرعاية والتقدير لعلماءها لما قال هذا العالم تلك المقولة ، وإنما قالها لأنه يعلم أن الدولة توقر العلم وتبجل العلماء ، حتى لو إختلف العالم مع الخليفة . إن مايحدث الآن من إمتهان لمكانة العلم والعلماء ، فهذا مما يفسر لنا وبوضوح السبب أو أحد الأسباب التي جعلتنا نخرج من التصنيف العالمي للجامعات . لقد حكى لي أحد الثقات عن دكتور في إحدى الجامعات العريقة ، ذهب بنفسه يفترش رصيف ميدان التحرير لبيع كتبه المقررة على طلبة الكلية .هذا التصرف هو دليل واضح على تدني المستوى المادي للعلماء الذي يصعُب معه الإلتزام بمتطلبات الأسرة من ناحية ، والعلم ومراجعه وأبحاثه من ناحية آخرى . وعلى النقيض نجد دول الخليج تستقطب رجال العلم المصريين وتغدق عليهم في العطايا ليقوم العالم المصري ببناء عقول أبناء الخليج وإفقار وتفريغ عقول أبناء مصر من الدارسين في الجامعات ، فما ظنكم بأعضاء هيئة التدريس الجامعي وهم يرون إجمالي الدخل في سنة واحدة " إعارة في دول الخليج " يوازي إجمالي دخل عشرين عاماً في نظيراتها من الجامعات المصرية . ناهيك عن الأعداد الكبيرة من حملة الماجستير والدكتوراة الذين لا يستهدفون الحصول على الدكتوراة بغرض الإسهام العلمي ، وإنما بقصد الوجاهة الإجتماعية ، وليسبق إسمه بلقب الدكتور فلان ، أضف إلى ذلك أن مثل هذا النوع من طلاب الدراسات العليا قد يكون مسئولاً كبيراً في أحد المراكز الحساسة بالدولة ؛ وهذا يعني بالتأكيد مجموعة كبيرة من التسهيلات الممنوحة لهذا الطالب للحصول على الدكتوراة في مقابل بعض الصفقات التي تتم " من تحت الترابيزة " . لقد تطرق الدكتور / محمد أبو الغار حفظه الله إلى تدني مستوى البحث العلمي في مصر وأشار إلى أن أغلب رسائل الدكتوراة والماجستير الحالية هي إعادة إنتاج العلم ليس أكثر ، أما الأبحاث والرسائل التي تضيف أو تسهم في دفع عجلة التنمية سواء في داخل المجتمع المصري ، أو على المستوى الدولي فهي لا تكاد تذكر مقارنة بعدد الحاصلين على درجات الماجستير والدكتوراة . إن الحل في نظري يبدأ أولاً بإنزال أهل العلم منازلهم ، من العلماء وأساتذة الجامعات الذين هم صفوة عقول الأمة ، ثم تخصيص ميزانية مستقلة للبحث العلمي كما هو معمول به في وزارات آخرى ، وكذلك إسهام القطاع الخاص والشركات الكبرى في تشجيع العقول الواعدة بتوجيه جزء من الإنفاق السنوي على أبحاث التطوير العلمية . ولا ننسى أن الجامعات لها دور كبير جداً في الإستفادة من إمكانياتها ومختبراتها في تطوير البحث العلمي ، ولعل في الأستاذ الدكتور / عبد الحي عبيد رئيس جامعة حلوان مثالاً مشرفاً لتوجيه إمكانات الجامعات في تطوير المجتمع من خلال إسهامات البحث العلمي ، فقد تعاقد بمبلغ يقارب مليوني جنيه لتصنيع قطع غيار لأحد الشركات الخاصة التي كانت تستوردها من الخارج بمبلغ 5000 دولار ، هذا هو الطريق الصحيح لكي نستعيد مكانة البحث العلمي المفقودة ، ونستفيد من عقول علماء مصر بدلاً من أسراب العقول المهاجرة التي تترك مصر للبحث عن بيئة خصبة لنمو إبتكاراتها ومخترعاتها وأبحاثها . engneer55@hotmail .com