من أهم خصوصيات العالم العربي السياسية، أن رؤساء الجمهوريات إلا ما رحم الله يتحولون إلي قياصرة يحكمون إلي الأبد، حيث لا تنفعهم عظة في عادتهم السيئة هذه سيرة الرسول محمد (ص) وخلفائه الراشدين، ولا حتي المصير البائس الذي انتهي إليه تشاوسيسكو وموبوتو سيسي سيكو وسائر من سار علي دربهم الديكتاتوري البغيض. لقد أثار مخاوفي مؤخرا تلميح لا ينفع معه تشكيك قام به عبد العزيز بلخادم الخادم الأمين للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، أشار من خلاله إلي أن الجزائر ستشهد تعديلا دستوريا قريبا، يلغي الفقرة التي تحصر عدد الولايات الرئاسية في اثنتين، وسيستبدلها بفقرة عربية بامتياز، تفتح المجال أمام الرئيس المنقذ للاستمرار في الرئاسة لولاية ثالثة ورابعة وإلي الأبد... فإذا ما وقع التعديل الدستوري الجزائري والرأي عندي أنه واقع لا محالة فإن هذا البلد الذي شذ عن السرب العربي طيلة سنوات التسعينيات ربما بفعل الحرب الأهلية الدامية ، سيعود لينضم إلي المجموعة العربية الأبدية، حيث الرؤساء يتبارون مع بعضهم البعض في من يخلد علي الكرسي أكثر، لا يزاحمهم في ذلك إلا شيخ الغابون الرئيس الحاج عمر بانغو، والرفيق الكوبي فيديل كاسترو. ولعل الفكرة التي يحاول عبد العزيز بلخادم وسواه من رجال الثورة والدولة في الجزائر الأوفياء، تسويقها تبريرا لمعاودة السير علي خطي الرئاسة العربية، أن بلدهم قد اعتنق الفتنة لما غادر الرئاسة الأبدية بعد وفاة الرئيس بومدين وإقالة الرئيس بن جديد، وأصبح رؤساؤه يستقيلون أو يحكمون لولاية محددة، وأنه قد تعافي بعد أن تسلم أحد أبناء الجيل الأبدي مقاليد السلطة، وأخذ يلتهم المؤسسة تلو الأخري ويراكم في يديه السلطة بعد الثانية. ثم لماذا تشذ الجزائر عن القاعدة العربية، فها هي مصر قدوة العرب الأولي تؤبد مبارك في انتخابات ديمقراطية، وها هي تونس قد تجاوزت بتعديل دستوري ما كان شعبها قد وعد به قبل سبعة عشر عاما، بأن لا رئاسة مدي الحياة بعد اليوم، وها أن الرئيس الراحل حافظ الاسد قد حقق نبوءة متملقيه بأن ظل إلي الأبد، وابنه بشار علي دربه لم يرتعد، وكان طموح الرئيس صدام مماثلا لو أن واشنطن لم تعد وتستعد، وكذا أمر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي أعلن أنه لا يريد البقاء، فإذا بجماهير اليمن السعيد تواصل استعطافه أن لا يرحل، وأن يبقي عطفا وإشفاقا ورحمة إلي ما لا حد. الطريق إلي الرئاسة الأبدية في العالم العربي، يشق علي مراحل متعددة، أولاها البدء في التهام جميع السلطات، ثم الإفاضة في تعداد المكاسب والإنجازات، ثم إغراق الرئيس وعائلته في الفساد والتجاوزات، ثم إحاطته ببطانة ذات مصالح كبيرة متشابكة وممتلكات، ثم إفراغ الحياة السياسية من أصوات الحاقدين والمغرضين وناكري الجميل من أعضاء النقابات والجمعيات والمعارضات، وأخيرا التراجع عن الوعود الديمقراطية والبيانات، هذا قبل الصدع بأن لا حياة يمكن أن تطاق أو وحدة يمكن أن تصان أو ديمقراطية أو استقرار أو إصلاح يمكن أن ينجز، إلا باستمرار سيادة الرئيس سيدا مطلقا علي سائر السلطات. بالعودة إلي الجزائر وهي مثال لا أكثر سيري كيف أن الرئيس بوتفليقة قد بدأ المسيرة الرئاسية، بالتهام الحكومة بعد إقالة بنفليس، والتهام البرلمان بعد حله، والتهام جبهة التحرير بعد التشجيع علي تقسيمها، والتهام الجيش بعد تهديد جنرالاته، وأخيرا التهام الدستور بعد تعديله، فهو يريد بلادا خالصة بلا مؤسسات سياسية ودستورية متوازية يراقب بعضها بعضا، ويقف بعضها في وجه بعض حتي لا تتغول أو تستبد. وكذا الشأن بالنسبة لمجمل الجمهوريات العربية الأخري، حيث يبدأ الرئيس فيها برئاسة سلطة واحدة هي التنفيذية، ليلحق بفعل الهيمنة المطلقة علي مؤسسات الردع من أمن وشرطة وجيش وحزب حاكم، باقي السلطات تباعا، فيضحي البرلمان تابعا شكليا ذليلا يعين أعضاؤه من قبل الرئيس بطرق ملتوية، وتصبح المحاكم فضاءات للمهازل والمحاكمات الكيدية والصورية، لكون القضاة يعينون ويقالون من قبل السيد رئيس الجمهورية. لقد تحدث المفكر والكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل قبل فترة، عن أن رئاسة الدولة لا يمكن أن تكون فعالة ومفيدة للشعب، إلا إذا حصرت مدتها في عشر سنوات علي أقصي تقدير، أو ولايتين رئاسيتين لا أكثر، ومرد ذلك أسباب صحية، والأهم من ذلك أسباب سياسية وعقلانية ومنطقية، فالرئيس إذا ما أدرك مسبقا أنه سيبقي في السلطة إلي ما لا نهاية، فإنه سينحرف نحو الفساد بالتدريج، وستشجعه بطانة السوء شيئا فشيئا علي التجبر والاستبداد، وسيسعي مع الوقت إلي امتلاك كافة الأدوات السياسية والقانونية والقمعية لكي لا يغادر كرسي الحكم إلي الأبد. بالعودة إلي الإشارة التي وردت في المقدمة، فإن حكمة يمكن أن تستنتج من الحقبة المؤسسة لتاريخ الدولة في المجال العربي الإسلامي، فقد شاء الله أن لا يحكم الرسول دولة المدينة إلا فترة يختلف المؤرخون في تحديد سنواتها علي وجه الدقة، لكنها علي أية حال بين الثماني والعشر سنوات، وهي بمصطلحات العصر ولايتان رئاسيتان لا أكثر، أما الخليفة أبو بكر فقد حكم سنتين فقط، في حين قتل عمر وعثمان، وكلاهما لم يحكم سوي ولايتين رئاسيتين من خمس سنوات للواحدة، بينما حكم علي بن أبي طالب ولاية رئاسية واحدة، والرأي عندي أن تدخلا إلهيا، قد جعل السقف الأقصي للحكم ولايتين رئاسيتين مجموعهما عشر سنوات، لا يجوز لحاكم مسلم أن يتجاوزهما إذا أراد الاقتداء بسنة النبي محمد (ص) وسيرة من خلفه من الراشدين. أما إذا ما جري الاحتكام لمعايير الديمقراطية المعاصرة، فإن الواقع السياسي العربي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن أهم مقياس يجب اعتماده في قياس مستوي الديمقراطية في أي بلد من البلدان العربية، هو اشتمال الدستور فيها علي مادة تحدد عدد ولايات الرئاسة في اثنتين، وأن يشار إلي أن هذه المادة غير قابلة للتعديل حتي مع وجود أغلبية مطلقة موافقة، علي غرار ما هو موجود مثلا في الدستور المغربي، الذي يشير إلي أن المادة الخاصة بإقرار النظام الملكي، غير قابلة للمراجعة أو التعديل أو المناقشة. إن المتأمل في الواقع العربي، سيدرك إلي أي مدي تبدو فيه الأنظمة الحاكمة مولعة بشخصنة الدولة من خلال وضع جميع السلطات في يد الرئيس المطلقة، والعمل من خلال وسائل الدعاية الرسمية علي الارتقاء بالحاكم إلي مصاف الأنبياء والقديسين والآلهة، وهو ما يجعل بداية الحل كامنة أولا في إعادة الرئاسة إلي طبيعتها الانسانية النسبية، من خلال النص علي تحديد عمرها، فإطلاقها عمريا لم يقد عمليا إلا إلي إطلاقها سلطويا وقمعيا. وإن النص علي أن المادة الدستورية الخاصة بتحديد عدد الولايات، غير قابلة للمراجعة أو التعديل أو الإلغاء، سيضمن عدم تمنية الرؤساء لأنفسهم بالتخليد في السلطة، وبالتالي دفعهم إلي الانتباه لسلوكهم السلطوي خشية المحاسبة اللاحقة بعد انقضاء فترة الرئاسة، والالتزام ما أمكنهم باحترام القوانين وإعطاء القدوة في ذلك، تقديرا منهم إلي أن فترة الحصانة التي يمنحها الموقع الرئاسي مؤقتة وزائلة. لقد جاء المثل للعالم العربي من أطرافه، وبالتحديد من موريتانيا، التي استصدر أعضاء مجلسها العسكري الانقلابي قانونا يمنعهم من الترشح للرئاسة، والدعوة إلي تضمين الدستور الجديد مادة تنص علي تحديد عدد الولايات الرئاسية، وكان عدم التحديد هذا بلية ابتلي بها الرئيس السابق معاوية، الذي أمعن في احتكار السلطة حتي أعدم كل أمل في التغيير السلمي السياسي للسلطة، وكادت بلاده أن تنجرف بانحرافاته إلي الهاوية. وأخيرا، فإن المنع الدستوري لظاهرة الرئاسة العربية الأبدية والمطلقة، سينهي إذا ما جري اعتماده، حالة الهروب إلي الأمام التي يمارسها الرؤساء العرب الماكثون في السلطة منذ سنوات وعقود طويلة، حيث يعتقد هؤلاء أن المكان الوحيد الذي يضمن لهم عدم الإيذاء والملاحقة جراء ما ارتكبوه من جرائم وآثام في حق شعوبهم، هو كرسي الحكم والسلطة. ------- صحيفة القدس العربية اللندنية في 25 -9 -2005