لم تعد الصورة الفوتوغرافية والتليفزيونية منذ اختراع آلة التصوير والتلفاز مصدرًا وثائقيًا مهمًا للتاريخ ورصدًا لأحداثه فحسب، بل صارت معبرة عن القوى المهيمنة على السياسة والمجتمع أيضًا.. وفى هذا الإطار أسهمت منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر إسهامًا كبيرًا ومهمًا فى قراءة الأحداث التاريخية بشكل سهل عملية الفهم والوعى بكثير من الأمور، وبالقوى المهيمنة على الساحة السياسية والإعلامية، فقد شكلت الصورة، بجانب الوثيقة المكتوبة والمنطوقة، دورًا مهمًا فى رصد أحداث ووقائع، وفى تأكيد حقائق وادعاءات وتفنيدها.. وفى إثبات حضور لقوى دون أخرى واختفاء لوجودها من على الساحة.. وفى كشف روايات مزيفة وأباطيل لم تكن تتحقق لولا هذا الاختراع الكبير والخطير.. ما يهمنا من هذه المقدمة أن مَن يتابع الأرشيف الصحفى والتليفزيونى فى السنة الأخيرة من حكم مبارك، يدرك بأن الرجل قد فشل فشلًا ذريعًا فى معركته الإعلامية ضد خصومه، من بعض أركان دولته ومن داخل بطانته، ولعل التركيز على ترويج صورتين فقط، من بين ملايين الصور الملتقطة للرجل خلال فترته، وهما صورته السمراء وهو قابض على شفته، والأخرى الفارد فيها لشفته، يشير إلى أن القوى المسيطرة نجحت فى التخديم على الشائعات التى أطلقتها حوله، عبر هاتين الصورتين تحديدًا. صورتان هامتان قلبتا حياة الرجل رأسًا على عقب.. فأينما يولى وجهته، ناظرًا فى صحيفة أو مشاهدًا لقناة، يجد التركيز على هاتين الصورتين دون غيرهما.. وربما كان التركيز عليهما خلال فعاليات مباريات مصر والجزائر فى التصفيات المؤهلة لكأس العالم الأخيرة فى قنوات مودرن دعبس الرياضية، يختزل تلك البداية فى توظيف البلهاء واستخدامهم فى الكيد للرجل وفى طعنه.. لقد أتلفوا لمبارك معظم أرشيفه الإعلامى، ليتم التسويق لهاتين اللقطتين فقط، بحجة اختفاء كثير من صوره، وإذا قال قائل بأن هذا أمر طبيعى أن تظهر هاتان الصورتان، لكونهما تتناسبان مع سن الرجل وافتقاده لنصاعة وجهه السابقة, إلا أن اللقطات الأخرى المأخوذة له عبر خطبه وزياراته تثبت بأن الأمر كان متعمدًا.. وأنه كان يتم تجاهل كل الصور ويُختزل ما أرادوه من تسويق وتركيز على هاتين اللقطتين فقط.. ولعل تولى مجموعة زكريا عزمى لهذا الترويج وهذا التوجيه، يقطع بأنه أدار العملية بحنكة ومهارة فائقتين.. وربما كان تركيز جماعته الصحفية وأنصاره، على استغلال التنافس وإظهار صور صفوت الشريف البهية، ووضعها بجانب صور مبارك الشائنة، تبرز كيف أوقع زكريا بين صديقين قديمين، مبارك والشريف، فوقع الخلاف، ولعل استضافة قناة حسن راتب لصفوت الشريف فى آخر مؤتمر عام للحزب الوطنى، مصاحبًا لدعاية مركزة له عبر جريدة الجمهورية، تقطع بهذا النجاح غير المسبوق، وأنه قد تم بفعل فاعل أراد أن يقول لمبارك: بأن صديقك معنا، ولا يمكنك إحكام الأمر من دوننا. كثيرون يظنون أن مبارك كان يتحكم فى خيوط اللعبة، وأنه كان يحرك الأمور كيفما يشاء وحسب هواه، غير أن المتابع الجيد لتعميم هاتين اللقطتين على وسائل الإعلام المختلفة، يتأكد بأن هذا الظن غير صحيح بالمرة.. فصور مبارك فى آخر تصويت انتخابى له فى دائرته مصر الجديدة، تثبت أنه لم يعد هذا الرئيس الذى يخيف أحدًا ممن حوله.. ولعل النظر فى المشاهد والصور التى بثت له فى ذلك اليوم، تقطع بأن الرجل بات مسيطرًا عليه فى كل تفصيلة من تفصيلات حياته وتحركاته.. فبالنظر لصور المناديب المستقبلين للرئيس فى ذلك اليوم، وهو عكس ما كان يحدث فى تصويتاته الانتخابية السابقة، تدرك بأن هذا الاختيار قد تم بعناية، وأنه يُخدِم على الشائعات التى بثوها حول الرجل.. وأنهم يريدون إخباره بأنه ما عاد له شوكة ولا مكانة، وأنهم سيضيقون عليه فى حياته وحياة أسرته فى كل صغيرة وكبيرة، وربما كانت حركة الشفاة التى أظهرها الطبيبان الألمانيان المعالجان له، فى مشهد تم تسويقه بعناية عبر نشرة التاسعة المصرية، يعكس بأن الرجل بات محاصرًا فى الداخل والخارج، وأنه لا مفر له من الهرب أو الاختفاء من المشهد.. ولعل استضافة ابنه علاء فى الاحتفال السنوى بغسل الكعبة، وبث صوره مع إحدى الشخصيات الإقليمية التى كانت تلك القوى تستدعيها لتشهد مع مبارك الاحتفالات بتخريج بعض الدفعات العسكرية، تشى بأن الرجل بات منبوذًا فى منطقته الإقليمية أيضًا.. وأن التحكم فى اللقطات المبثوثة له، بات فى يد قوى معلومة الملامح والاتجاهات، تدير أموره كيفما تشاء، ولا يستطيع أن ينطق ببنت شفه.. ومن ثم فإن معركة الصور التى أديرت ضد الرجل تثبت بأن تلك القوى تتمتع بقدر كبير من العلاقات، ومن النفوذ الداخلى والإقليمى والدولى.. وأن الرجل لم تعد له شوكة عليهم، وليس له أنصار لا فى الداخل ولا فى الخارج. ولعل التركيز على اللقطتين السابقتين بعد نجاح الثورة لعدة أشهر، ثم اختفاؤهما من المشهد قبل الانتخابات الرئاسية يشى بأن التركيز عليهما فى البداية كان مطلوبًا لضمان عدم وجود أى متعاطفين مع مبارك بعد نجاح الثورة.. وأن اختفاءهما فيما بعد كان حيلة لكسب ثقة الأطراف المضارة ريثما تستتب الأمور. وخلاصة العبارة، أن رصدنا لمعركة الصور تلك، ما هو إلا إبراز لتلك القوى وكشفها أمام الناس فى جانب، وفضح لأساليبها وتعرية لمعاركها الوهمية فى جانب آخر، ولعل ما نراه من تبعات لها، من تأخير لإصلاحات، ونكث بالوعود والعهود، يعكس ملامح الحروب الباردة المشتعلة بين الفرق الخاسرة والرابحة من الثورة، وطالما أن الخصومة ظاهرة، والتركيبة مفككة، بحكم معركة الصور السابقة واللاحقة، فإن حالة الاستقرار والأمن لن تعود بين يوم وليلة، وعلى هذا، فإن الآمال المعقودة على إنجاز أهداف الثورة لن يتم مع استعراض كل قوى لعضلاتها. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.