كانت علاقة الأمريكيين بد. محمد البرادعي ممتازة منذ تعيينه مديرا للوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 1997(البرادعي رجل قانون مصري ومحامي دولي وليس عالما في الذرة كما يعتقد كثيرون). غيرأن الأمور بينهما أخذت منحى آخر عندما رفض البرادعي تزييف الحقائق فيما يتعلق بموضوع البرنامج النووي لصدام حسين ، وهو ما كنت قد أشرت إليه في بداية هذه السلسلة عن إيران. ثم زاد الطينة بلة موقفه من برنامج إيران النووي السري الذي تكشف للعالم نتيجة وشايات من إيرانيين خونة معادين للنظام الحاكم في طهران. فقد ظلت إيران تعمل على بناء هذا البرنامج لما يقرب من 18 سنة. وظن الأمريكيون عندما إنكشف الأمر أنهم بصدد فرصة ذهبية عليهم إستغلالها إلى أقصى درجة للنيل من طهران وإخضاعها. وقد حاولوا بالفعل الإمساك بجميع أطراف المسألة ، ومنها الطرف المرتبط بعالم الذرة الباكستاني عبد القدير خان ، حيث شنوا عليه حملة إعلامية مضللة إستهدفت سمعته ونزاهته ، وذلك بتصويره كمرتزق يثري من علمه ببيع التكنولوجيا النووية لكل من هب ودب. أما مع إيران ، فكل ما كانوا يحتاجونه هو مدير لوكالة الطاقة مطيع ومتعاون مع أجندتهم حتى يتمكنوا من الإيقاع بها في الفخ. وكانوا يعتقدون أن هجومهم على موقف البرادعي المستقل في موضوع العراق ، سيجعله أكثر إستعدادا للتعاون . غير أنه تعامل مع ملف إيران بنفس الحياد والحرفية اللذين تعامل بهما مع ملف العراق : فقد إنتقد إيران لإخفاء برنامجها وعدم الإعلان عن أنشطتها النووية لطمأنة المجتمع الدولي ، ولكنه أعلن أيضا عدم وجود دليل واحد يقول أن هذا البرنامج له أية أهداف عسكرية. وهذا ما أثار حنق وغيظ إدارة بوش ، وبالذات البلطجي المسعور جون بولتون الذي كان يعمل نائبا لوزير الخارجية لشئون الحد من التسلح قبل أن يصير سفيرا لأميركا في الأممالمتحدة. فقد وجه هذا الإعلان ضربة قاصمة لما كانت إدارة بوش تخطط له من تعبئة للضغوط الدولية ضد إيران. وهكذا بدأت جهود أميركا في الإطاحة بالبرادعي منذ منتصف العام الماضي أولا بوقف تبادل المعلومات الاستخبارية مع الوكالة كمقدمة لإقناع الأعضاء الآخرين في مجلس الحكام برفض التمديد للبرادعي . وثانيا بالبحث عن مرشحين محتملين يصلحون كبدلاء له . وثالثا بالتصنت على مكالمات البرادعي التليفونية على أمل الإمساك بمعلومة (" ذخيرة" على حد تعبير تقرير الواشنطن بوست 8/6 الماضي) يمكنهم إستخدامها ضده وإبتزازه إما للرحيل عن الوكالة أو للتعاون مع الأجندة الأمريكية. وحيث أن البرادعي كان يتمتع بقبول ال34 دولة أخرى في مجلس الوكالة ، ولأن أحدا ممن حاولت أميركا إقناعه بالترشح لم يكن على مستوى كفاءة البرادعي ، ولأنهم لم يعثروا على معلومة واحدة في إتصالاته يمكن أن تشينه ، إقتنع الأمريكيون بعد عام كامل من محاولاتهم المستميتة بأنه لا خيار أمامهم إلا القبول بالتمديد للرجل ، ومحاولة الاستفادة قدر الإمكان من هذا الوضع. ففي نفس تقرير الواشنطن بوست ، جاء أن كوندوليزا رايس إستدعت البرادعي للاجتماع به للتشاور حول شروط أميركا للموافقة على التمديد له ولمناقشة على حد تعبير رايس "رؤيته عما سيكون عليه موقف الوكالة خلال السنوات القادمة الهامة جدا جدا." وقد جرى الاجتماع بالفعل يوم 9/6 الماضي بحضور روبرت جوزيف نائب رايس والذي حل محل بولتون . وطبقا لما قاله مسئول أمريكي ، فإن الشرط الأمريكي لقبول البرادعي (أميركا لا تملك منع التمديد لأن 34 دولة تؤيد) هو أن يتخذ مواقف أكثر حزما تجاه الملف الإيراني ، وأن يكون أكثر تشكيكا في نوايا إيران علنا. وقد تم التمديد للبرادعي بالفعل ، ولا جدال في أن الضغوط ستتفاقم عليه حتى يتعاون مع الأجندة الأمريكية. فهل سيتمكن الرجل من الصمود؟ وإذا صمد أمام ضغوط الأمريكيين ، هل ستقوم واشنطن بدفع حليفها الأوثق في المنطقة ، وأخطر أدواتها لإخضاع العرب ، لكي ينتزع من البرادعي ما فشلوا هم في انتزاعه ؟ هذا ما سيتضح خلال الشهور القليلة القادمة. [email protected]