أنا من المعتقدين بصحة نظرية تقول : أن كل إنسان مهما كانت درجة الخلاف معه ، يوجد في داخله نقطة مضيئة يمكن التواصل معها والعمل على إبرازها ودعمها ، من خلال إقامة حوار إنساني عقلاني منطقي وموضوعي . قد تكبر النقطة ويتعاظم تأثيرها داخل النفس الإنسانية نتيجة هذا الحوار ، وقد تنزوي وتتلاشى نهائيا حين تتغلب عليها النوازع البشرية الأخرى . على هذا الأساس أوجه رسالتي إلى "جمال مبارك" .. فرغم اختلافي الجذري والعميق معه في كل شئ تقريبا .. ورغم اختلاف مرجعيتنا الفكرية وتباين مواقفنا السياسية وتباعد آرائنا حول مجمل القضايا الوطنية .. إلا أن ذلك لم يمنعني من القيام بهذه المحاولة التي تهدف إلى الوصول لتلك النقطة المضيئة ، والنفاذ إلى ثغرة في عقل وقلب الرجل . هي مجرد محاولة بسيطة قد تفشل وتذهب أدراج الرياح ، ويتجاهلها الرجل تماما (وهو الاحتمال الأكبر) فتصير الأمور إلى أقدارها المحتمة ويصبح نضال المصريين للتغيير والإصلاح حينئذ أمرا مقدرا وخطى كتبت عليهم ومن كتبت عليه خطى مشاها . أو قد تنجح وتحقق الغاية منها وتجد أذنا صاغية ويستوعبها الرجل فنختصر - بلطف الله- رحلة طويلة ومشوار شاق سيخوضه المصريون لا محالة في المرحلة القادمة . ونحمي البلاد من مخاطر محتملة ومصائر مجهولة ، ونجنب الناس تجارب مريرة من المكابدة والمعاناة . فكل ما تطالب به القوى الوطنية من حريات وعدالة ومحاسبة للفاسدين وكل ما تريده من إصلاح وتغيير ، يستطيع جمال (من خلال أبيه) القيام به وإنجازه بسرعة وسهولة عبر سلطاته المطلقة وصلاحياته الواسعة .. ولكن هل يمكن حدوث ذلك الفعل المثالي ؟ .. أم أن سنن الحياة وطبيعة البشر وحقائق الأمور تجعله حلما مستبعدا ؟ .. هل يمكن أن يتنازل الحاكم عن سلطته المطلقة ويمنح الشعب حريته عن طيب خاطر ، أم أن الشعوب التي تتوق للحرية عليها أولا أن تسدد استحقاقاتها كاملة من دمها وكدها ؟ .. الأيام القادمة ستحمل الإجابة عن هذه الأسئلة ، وأفعال مبارك وابنه ستحددها بكل تأكيد !! . كانت هذه مقدمة لابد منها قبل ان اشرع في خط الرسالة المطولة التي سننشرها في هذه الزاوية على مدى 4 أجزاء أسبوعيا وعلى مدار شهر رمضان .. والآن إلى نص الرسالة : """ أخي (في الإنسانية) جمال مبارك .. تحية طيبة وبعد ، هذه رسالة أرجو أن تجد طريقها السريع إليك ، فإذا كنت قرأت مقدمة الرسالة ووعيتها جيدا ، فدعنا نتفق أولا على أن ممارسة السياسة كمهنة ودور لا تعني أبدا إهدار مبدأ القيمة الموضوعية في سبيل تحقيق المصلحة الفردية بالطريقة المكيافيلية المعروفة ، الأمر الذي لا يعطي للسياسي مبررا في الكذب على الناس وخداعهم طوال الوقت . وبمعنى أوضح أنه لا يصح إهدار الديمقراطية أو تجاوزها أو حتى تأجيلها في دولة عريقة التاريخ والحضارة مثل مصر ، وبعد أن دخلنا في القرن الحادي والعشرين ، من اجل مصلحة فرد أو أسرة . إذا اتفقت معي على هذا الكلام ، فأرجو أن تحتملني فيما سيأتي من كلام صادم ، وعذري أنه كلام يتحرى الصدق ولا يزيف الواقع القبيح ليجعله جميلا في نظرك . عزيزي جمال .. ان أول شئ ينبغي عليك القيام به لتعزيز صورتك لدى الناس - إذا كنت مهتما بذلك- هو الاعتذار نيابة عن والدك عن كل الأخطاء التي ارتكبها في حق المصريين طوال ربع قرن من حكمه ، والاعتذار لعشرات الألوف من المعتقلين ظلما في السجون لسنوات طوال من دون توجيه تهم محددة لهم ، والاعتذار عن التعذيب وانتهاك أدمية الناس في السجون وأقسام الشرطة ، والاعتذار عن الديون الحكومية الخارجية والداخلية التي تهدد أجيالنا بمستقبل مظلم ، والاعتذار عن كل قرش نهب في الداخل وكل دولار هرب للخارج بفعل التواطؤ مع الفساد ، والاعتذار لعشرة ملايين عاطل يرزحون في الفقر والبطالة ، والاعتذار لمعظم الشعب المصري الذي يعيش تحت خط الفقر ، والاعتذار عن التفريط في مكانة مصر الدولية والإقليمية وتقزيم دورها في المنطقة .. لقد ضيع والدك 24 عاما من عمر المصريين في تجارب فاشلة ، فكم بلد في العالم كانت أفقر منا وأكثر نسلا وتعدادا ، حققت تقدما وطفرة تنموية واقتصادية هائلة في هذه السنوات العجاف .. مصر الآن يا سيد جمال تتذيل بلاد العالم قاطبة في كل شئ ، وما صفر المونديال منكم ببعيد . والحقيقة التي ندركها جميعا أن الوالد قد ركز كل اهتمامه على الأمن السياسي ، وأولى عنايته القصوى لثبيت حكمه ، والحق أنه نجح في ذلك نجاحا باهرا ، ولكنه للأسف كان النجاح الوحيد طوال فترة حكمه ، والدليل على ذلك أنه ما زال يحكمنا حتى الآن برغم الكوارث المحيطة بنا من كل جانب . عزيزي جمال .. إذا كنت تريد الإصلاح حقا فعليك الاعتراف بأن كل المبررات التي تطلقها السلطة وكل الألاعيب الحكومية التي تعرقل نهوض مصر وتطورها الديمقراطي الطبيعي ، مثل التعديل المشوه للمادة 76 من الدستور ، والإصرار على فرض قانون الطوارئ ، والتعاطي المشبوه مع الفساد ، والتزاوج بين السلطة ورأس المال .. هي أشياء تمثل ضررا بالغا بالناس والبلاد ، ولكنها في المقابل تصب في مصلحة النخبة الحاكمة التي يمثل والدك رأسها وأصبحت أنت الرجل الثاني فيها . وعندما تتعارض المصلحة العامة للوطن مع مصالح نخبة من الأفراد كما هو حاصل في مصر ، فان ذلك يمثل فشلا سياسيا ذريعا لمن بيده مقاليد الحكم ومقدمة للفوضى والانهيار . ولن يفلح (الفكر الجديد) في معالجة الأمور وحلحلة الأزمة ، فهو كدواء الأسبرين الذي يعالج مريضا مشرفا على الهلاك ويعاني من الفشل الكلوي . وبمناسبة موضوع الفكر الجديد الم تسال نفسك لماذا لم يصدقه الناس ولم يتفاعلوا معه ، ولماذا لم يأخذوه على محمل الجد ؟.. الناس أدركت يا سيد جمال ان ما يعرض عليهم هي أكاذيب جديدة تريد أن تحل محل الأكاذيب القديمة . أما الصراع بين الحرس القديم والجديد ، فقد رأى فيه الناس صراعا بين ذئاب عجوزة متخمة من الفساد ، وذئاب شابة جائعة تريد نصيبها من الغنيمة . [email protected]