عايش ابن خلدون (1332م-1406م) معايشة شخصية فترة أليمة فى تاريخ الأمة.. فقد رأى بعينيه سقوط دولة المغرب وانهيار دولة المشرق تحت أقدام الأسبان والتتار.. كان شاهدا مباشرا على هذا الانهيار (وقع فى أسر تيمورلنك). كان الرجل مثقلا بالمرارة والنقمة عندما رأى العرب غارقين فى نزاعاتهم الداخلية وصراعاتهم العميقة.. وانعكس ذلك على آرائه التى تميزت بقدر كبير من الحدة تجاه العرب وطباعهم وقال فيهم قولا شديدا: (من عوائد العرب الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة.. فهم منافسون فى الرئاسة وقل أن يسلم أحد منهم من الغيرة ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته أى فى الأقل وعلى الكره). يقولون إن الفكر ما هو إلا تجليات الواقع.. والعلاقة بين الفكر والواقع علاقة جدلية قديمة يتبادل فيها الطرفان التأثير تبعا لظروف كثيرة.. فى الأغلب الأعم يستسلم الفكر لإكراهات الواقع التى غالبا ما تكون شديدة الوطأة.. (من الممكن أن نقرأ بعض آراء ابن تيمية وسيد قطب من هذه الزاوية)، التفاعل بين الطرفين عادة ما ينتج فكرا مستجيبا لمقتضيات عصره وأوانه لا أكثر ولا أقل. أفكار ابن خلدون المجردة فى علم الاجتماع السياسى كانت واضحة ومنطقية، فالاجتماع الإنسانى ضرورة.. واستقامة هذا الاجتماع واستقراره يقتضى وجود حاكم. ولابد أن يكون هذا الحاكم (متغلبا) يملك مبررا لوجوده وقدرة على إدامة هذا الوجود واستمراره. ومصدر هذا التغلب هو (العصبية). والعصبية تعنى الامتداد الجماهيرى والشعبى المنظم. (..لا يتم الملك إلا بالعصبية، والعرب لا يحصل لهم ملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو إرث عظيم من الدين على الجملة.. لأن الدين يذهب عن العرب صفة التوحش والكيد والمنافسة والتحاسد). هكذا تحدث بن خلدون.. الأمم العظيمة استثمارها الحقيقى هو الإنسان.. بتدشينه أخلاقيا.. والدين الخلق، فمن زاد عنك فى الخلق زاد عنك فى الدين، ومن نقص عنك فى الخلق نقص عنك فى الدين.. كما يقول ابن القيم. من يدعون إلى هذه المعانى ليس لديهم شعور بأنهم (شعب الله المختار)، كما قال الأستاذ حمدين صباحى واصفا الإسلاميين.. فقط لديهم ضمير دينى وحس أخلاقى ووعى تاريخى. هذا الوعى التاريخى ازداد قوة بالاتجاه الواضح للإسلاميين بالتمييز بين العمل الدعوى والعمل الحزبى .. أراه فى (الحرية والعدالة) وأراه فى(مصر القوية).. جيل السبعينيات يصالح التاريخ ويصالحه التاريخ بتطوير المسارات فى الاتجاه الأصوب والأكمل. ابن خلدون سيقوم بتقديم تطوير حركى للدعوات الدينية فى اتجاه البناء التنظيمى، فيقول: (الدعوة الدينية بدون عصبية لا تتم..)، لابد إذن من (التنظيم) لنجاح أى دعوة دينية فى تحقيق أهدافها والتى هى بالبديهة (نشر الدعوة) ودعم الدولة.. (دولة الدعوة) التى تقيم (المجتمع المتوازن)، الشرط الضرورى لإقامة الشريعة وتطبيق نظام قانونى كامل.. فالكل فى حق الحياة سواء. دعم(الدعوة) ل(الدولة)، رأيناه كثيرا فى التاريخ.. الدعوة العباسية.. دعوة المرابطين.. دعوة الموحدين.. وكل تجربة تاريخية لها إيجابياتها وسلبياتها.. وليس فرضا علينا حمل آثار الماضى أو تركاته، خاصة إذا كانت تحمل بعض العيوب.. لدينا المشروع والتجربة ونستطيع إعادة صياغتها على نحو أصح وأسلم من تلك العيوب. حضور الدين فى الدولة عبر التاريخ الحضارى للأمة كان لازما ودائما. إذا ما اقتطعنا من نظرية بن خلدون فكرة (التغلب) بالمعنى القهرى، وأحللنا مكانها فكرة استدعاء الجماهير للدعوة.. سنجد أن هذه النظرية _ من قوة قراءتها للواقع الموضوعى والتاريخى للأمة _ ليست فقط (نظرية) ولكنها (حقيقة). تجربة محمد على (1805م-1840م) الناهضة كانت من خلال الدولة العثمانية (الخلافة الدينية)، وحين أخذت هذه التجربة فى التطور تجاهلت الدين.. فانتهى بها الأمر إلى الفشل.. فشل فى تجديد الدولة العثمانية من الداخل انطلاقا من مصر كما يرى البعض.. ثم فشل فى إتمام مشروعه الإقليمى وانتهى الحال إلى الاحتلال (1882م). ثم جاءت حركة الضباط (يوليو1952م) استندت إلى العصبية (الجيش) وتجاهلت حضور الدين ليس فقط نتيجة للصدام مع الإخوان.. الدين أكبر من الإخوان.. ولكن استمرارا (للغباء التاريخى) الذى بدأه محمد على.. ومن لا يقرأ التاريخ محكوم عليه بتكراره كما يقولون.. فكرره (أبو الهزائم حيا وميتا).. الأب الروحى للتيار الشعبى (الصباحى).. سلام على عمر ضائع لم يكن غير وهم جميل..! ثورة 25يناير كانت إعلانا بفشل مشروع حركة الضباط فى يوليو 1952م. لتبدأ مرحلة تاريخية جديدة لحمل عبء النهوض بالوطن.. فأشرقت علينا الدولة الخلدونية (التنظيم/الدعوة الدينية). إنه دهاء التاريخ كما يقولون..الفراغ السياسى والحزبى الذى خلفته ثورة يوليو مع كم الهزائم والتردى الذى صاحبها دفع بعجلة التاريخ للسير حثيثا فيما نعيشه الآن.. ليعود للشرق كله روحه ورضاه. ولن يتم هذا الرضا إلا بنجاح مصر الناهضة فى تحقيق حلم التقدم.. وعلى من يريد لهذا البلد أن ينجح فليتقدم للسير فى نفس الاتجاه.. اتجاه حركة التاريخ.. القصة ليست قصة إسلاميين وغير إسلاميين.. القصة قصة روح الشرق وجوهره وجودته. فى مسرحية (عدو الشعب) لإبسن، يقول د.إستوكمان محذرا: أولئك الذين يريدون أن يعيش المجتمع فى أكذوبة يجب أن نحذرهم ونحذر منهم. الأحزاب التى تتكون الآن بعيدا عن (منطق التاريخ) ليست إلا مشروع فشل.. مشروع نجاح إذا أخذت الجماهير فيه معها.. الجماهير لن تأتى مع همهمات غامضة عن الحرية والعدل الاجتماعى، الجماهير ستأتى مع الإسلام.. عماد حضارتها وعمقها التاريخى.. لن نعيد اختراع العجلة كما يقال. قد تنجح هذه الأحزاب _ انتخابيا _ نجاحا عابرا مرة أو مرتين.. وسيدفع الناس الثمن عمرا وعرقا وخيبة وحسرة لنعود ثانية إلى أول السطر. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).. ليس ذلك استدعاء للمقدس إسكاتا للآخر. بل استنطاقا لحقائق الحياة ومنطق التاريخ.