مرة أخرى يُطل السيد الرئيس الدكتور محمد مرسى ليدهشنا ويدهش العالم من حولنا، فبعد غياب طال أكثر من 22 عاما عن قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة عادت مصر إلى مكانتها الدولية ودورها العالمى من خلال حضورها القوى والذى تمثل فى مشاركة الرئيس مرسى وإلقائه كلمة مصر فى حضور قادة الدول الأعضاء فى الأممالمتحدة. الخطاب يعبر عن مصر ويتحدث عنها وجاء خطاب السيد الرئيس قوياً ويعكس مكانة مصر وقوتها، وقد ترقب العالم كلمة مصر ليتعرف على معالم النظام المصرى الجديد، وقد لقى الخطاب تقديراً غير مسبوق وقوبل بتصفيق حاد من قبل الوفود الحاضرة، مما ينبئ أن مستقبل مصر بات فى يد أمينة وقادرة على الوفاء بتطلعات الشعب المصرى وطموحات العالم العربى. وقد كان الرئيس حريصاً أن يستهل خطابه للعالم من نافذة مصر الثورة مصر الحديثة، ليؤكد أنه يقف أمام قادة العالم كأول رئيس مدنى منتخب عقب ثورة سلمية أدهشت العالم كله، وقال إن الثورة المصرية التى أسست الشرعية التى أمثلها أمامكم اليوم لم تكن نتاج لحظة أو انتفاضة عابرة، كما أنها لم تكن أبدا رياح هبت فى ربيع أو خريف، إن هذه الثورة وما سبقها ولحقها من ثورات، جاءت نتيجة لكفاح طويل لحركات وطنية حقيقية. كما حرص الرئيس على تقديم تعريف موجز للدولة المصرية الحديثة التى يتطلع لها الشعب المصرى، وقال: "الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية القانونية الحديثة التى تستوعب العصر.. دولة تقوم على سيادة القانون وعلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان دون تفريق فى القيم الراسخة فى وجدان أبناء مصر جميعهم، دولة تنشد العدل والحق والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية". وهذا أمر مهم يترقبه قادة العالم الذين يهمهم أن يتعرفوا عن كثب برئيس مصر الثورة. الرئيس ينتصر لقضية المقدسات كان متوقعاً الحديث عن الأزمة التى نشبت خلال الأسبوعين الماضيين على أثر الفيلم المسىء لمقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وثوابت الإسلام، ولهذا حرص الرئيس مرسى على بيان واضح حاسم، حيث ذكر أن ما وقع من تصرفات من بعض الأفراد ومن إساءة لرسول الإسلام نرفضه ولا نقبله ونعادى من يفعله، ولا نسمح لأحد أبدا أن يقول بذلك، قولا أو فعلا، وأن ذلك يتعارض مع أبسط مبادئ المنظمة التى نجتمع فى ظلها اليوم حتى أضحى ظاهرة لها عنوان كراهية الإسلام: "إسلاموفوبيا". وأوضح أن مثل هذه التصرفات تمثل تهديداً للسلم والأمن الدولى ومن ثمَّ بات واجبا على الجمعية العامة ومجلس الأمن أن يتصرفا لوقف مثل هذه التصرفات الخرقاء التى تتعارض مع المواثيق الدولية، وأشار إلى أن "علينا جميعا أن نتكاتف للتصدى لتلك الأفكار الرجعية التى تقف حائلا أمام تشييد أواصر التعاون بيننا، وعلينا أن نتحرك سويا فى مواجهة التطرف والتمييز ومواجهة الحرب على كراهية الغير، على أساس الدين، وعلى الجمعية العامة ومجلس الأمن مسئولية رئيسية فى التصدى لهذه الظاهرة بما لها من تداعيات تؤثر على السلم والأمن". وواصل: "إن الأعمال المسيئة التى نشرت مؤخرا فى حملة منظمة للمساس بمقدسات المسلمين أمر مرفوض، ويجب علينا - ونحن مجتمعون فى هذا المحفل - أن ندرس كيف نستطيع أن نحمى العالم من زعزعة أمنه. يُحسب للرئيس مرسى تصديه لهذه القضية لاسيما أن خطاب الرئيس الأمريكى أوباما جاء مخيباً لتوقعات العالم الإسلامى، معبرا عن ثقافة أمريكية يريد لها أن تحكم العالم، فكان لزاما أن يأتى الرد على أوباما قويا ومنتصرا لمقدسات العالم الإسلامى وردا لاعتبار الديانات كلها، وهذا ما وضح من خطاب الرئيس مرسى فى هذا الشأن. الخطاب وقضايا الأمة العربية (الرئيس يمثل الأمة) أكاد أجزم أن روح الأمة العربية وقضاياها الهامة كانت حاضرة حية فى وجدان الرئيس وخطابه حيث أبرز قضية الشعب الفلسطينى وما يعانيه، وتطلعاته المشروعة نحو إقامة دولته المستقلة التى ضحت الأجيال الفلسطينية من أجلها، وذكر بأن عقودا طويلة مضت منذ أن عبّر الشعب الفلسطينى عن عزمه لاستعادة كل حقوقه وبنائه لدولته المستقلة وعاصمته القدس الشريف، ورغم جهاد هذا الشعب المتواصل وتبنيه لجميع الأساليب المشروعة للحصول على حقوقه، وقبوله بالقرارات الدولية كأساس للحل، ورغم ذلك تظل هذه الشرعية الدولية والقرارات الأممية عاجزة حتى اليوم عن تحقيق آمال وتطلعات شعب فلسطين. وكان حريصا على لفت أنظار العالم الدولى إلى أخطر ما يهدد قضية فلسطين اليوم، وهو الاستيطان الذى يعمق الجراح ويصعب القضية ويعقدها، وأشار إلى أنه من المشين أن يقبل العالم الحر استمرار طرف فى المجتمع الدولى فى إنكار حقوق أمة، ومن المشين أن يستمر الاستيطان فى أراضى هذا الشعب الفلسطيني، وتستمر المماطلة فى تنفيذ قرارات الشرعية الدولية.. وإننى من منطلق الدفاع عن الحق والحرية والكرامة الإنسانية أضع المجتمع الدولى أمام مسئولياته، ومن الملاحظ استمرار تجاهل السيد الرئيس لذكر كلمة إسرائيل، وقال عوضا عن ذلك كلمة "طرف دولى". وكما اهتم الخطاب بالقضية الفلسطينية كانت قضية الشعب السورى حاضرة بقوة ووضوح وعلى ذات النهج الذى أسسه الرئيس وعبر عنه فى كثير من المحافل العربية والإسلامية والدولية، أعاد التأكيد على ملامح المبادرة المصرية لحل الأزمة السورية وأوضح الجهود التى بذلتها القيادة المصرية لحل الأزمة، "إن مصر ملتزمة بمواصلة ما بدأته من جهد صادق لإنهاء المأساة الدائرة على أرض سوريا، فى إطار عربي، وإقليمى ودولى، يحافظ على وحدة تراب هذا البلد الشقيق، ويضم جميع أطياف الشعب السوري، دون تفرقة على أساس عرقي، أو ديني، أو طائفي؛ ويجنِّبُ سوريا خطر التدخل العسكرى الأجنبى الذى نعارضه. كما أننا ملتزمون بدعم مهمة السيد الأخضر الإبراهيمى المبعوث المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، وباستكمال الجهد الجارى لتوحيد صفوف المعارضة السورية، وتشجيعها على طرح رؤية موحدة، وشاملة، لعملية الانتقال الديمقراطي، المنظم، للسلطة بشكلٍ يضمنُ حقوقَ جميع مكونات الشعب السوري، ويحفظُ لكل مكون مكاناً أساسياً فى سوريا الجديدة". ولم ينس الخطاب تذكير المجتمع الدولى بقضيتى السودان والصومال، وأن السودان يحتاج اليوم إلى الدعم الدولى أكثر من أى وقت مضى، وأنه حان الوقت الذى يتم إنصاف السودان وشعبه بعد أن التزم بكل بنود الاتفاق الشامل ولم يحظ حتى الآن بالدعم المرتقب من المجتمع الدولى، وكذلك الصومال الذى أنهكته الحروب والمؤامرات. وقال الرئيس إننى أدعو الأممالمتحدة، إلى مواصلة دعم جهود الحكومة الصومالية، فى مواجهة من يعمل لإفشال الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتحقيق تطلعات الشعب الصومالى لغد أفضل. الرئيس مرسى يؤكد على ضرورة إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل وهذا التأكيد من الأهمية بمكان أن يُطرح فى هذا المحفل الدولى، وأن يكون صوت مصر واضحا فى هذه القضية الخطيرة، وأن الشعوب العربية قد صارت صاحبة القرار وأنَّ ثمة تغييراً قد طرأ فى مراكز القيادة والإدارة، ولهذا قال الرئيس إن إرادة الشعوب فى منطقتنا لم تعُد تتقبلُ استمرار أى دولة بعينها خارج معاهدة منع الانتشار النووى، ولا عدم تطبيق نظام الضمانات على منشآتها النووية، خصوصاً لو اقترن هذا بسياسات غير مسئولة وتهديدات تُلقى جزافاً. إن قبول المجتمع الدولى بمبدأ الاستباق أو محاولة إضفاء الشرعية عليه أمر خطير فى حد ذاته، ولابد من مواجهته بحسم حتى لا يسود قانون الغاب. ولم يغفل التأكيد على حق دول المنطقة فى الاستخدام السلمى للطاقة النووية ضمن إطار معاهدة منع الانتشار النووى، وضرورة التزامها بتعهداتها، وتوفير الضمانات اللازمة لدول الإقليم لإزالة أى شكوك حول برامجها السلمية وذكر بأهمية انعقاد المؤتمر الخاص بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية وكل أسلحة الدمار الشامل فى موعده قبل نهاية العام الجارى 2012، وبمشاركة كل الأطراف المعنية دون استثناء. وأقولها بوضوح: لا بديل عن التخلص الكامل من الأسلحة النووية، وكافة أسلحة الدمار الشامل. بقيت عدة قضايا هامة أخرى تناولها خطاب الرئيس تتعلق بقضايا إفريقيا وتطوير الأممالمتحدة والقضايا الاقتصادية العالمية، جديرة بالتعليق والتحليل نتناولها فى مقال آخر، إن كان فى العمر بقية.