بعض الرجال لا يتصورن أن تكون المرأة عبقرية، أو يصدر منها نبوغ يبهر الدنيا، ويظنون أن كلمة الابداع والنبوغ مقرونة بالذكورة وحدها، وأن المرأة مهما علا عقلها، فإنها لا تبلغ الرجل أو تقارن به في فن من الفنون. وهذه العقول القاصرة الضعيفة لا ترى موقع المرأة وميدانها إلا في مكان واحد، في البيت.. حيث النوم والفراش، وإذا حدثت أحدهم عن قدرة المرأة، فإنه يدندن بقول الشاعر: ما للنساء و للكتابة ** والعمالة والخطابة هذا لنا ولهن منا ** أن يبتن على جنابة والحق أن المرأة لولا مشاغلها والتزاماتها الأسرية، وتحملها لمسؤولية البيت والأولاد التي تقتل أي إبداع، لفاقت الرجال نبوغا وإبداعا وعبقرية وسموا في معالي الأمور. ومن عجب أن ترى الغربيين وأذنابهم من الشرقيين ينسبون للإسلام زورا وينعتونه بهتانا بأنه مهين المرأة وكابت عنصرها، والحق أنهم كاذبون مخادعون ظالمون لدين وحضارة كانتا أول من عرف للمرأة قيمتها، واحترما كيانها ورفعا شأنها واعتزا بمكانتها وأقرا فضلها. إن ديننا قلب موازين الجاهلية في كل شيء، ومن أهم ما قلب ازدرائها للمرأة ونظرتها المنكرة للنساء وكفرانها العتي بمواهبها وقدراتها وعقليتها، فأفسح لها المجال وأبان لها الطريق، فصارت مكرمة عزيزة لها جهودها ونبوغها وحضورها وأثرها.! وفي تاريخنا الإسلامي كانت حركة علمية فسيحة لم يخل ميدانها من المرأة التي أثبتت وجودها ومكانتها، فمنذ مطلع الإسلام وفجر الرسال كانت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، من أعلم الناس بالقرآن والفرائض والشعر وأيام العرب (التاريخ). حتى قال هشام بن عروة فيما روى عن أبيه: «ما رأيت أحداً أعلم بفقهٍ ولا بطبٍّ ولا بشعرٍ من عائشة» قال الإمام الحافظ السيوطي في ألفيته: والمكثرون في رواية الأثرْ *** أبو هريرة يليه ابن عمرْ وأنس والبحر كالخدريّ *** وجابرٌ وزوجة النبي وقال جمال الدين بن ظهيرة: سبعٌ من الصحبِ فوق الألف قد نقلوا *** من الحديث عن المختار خير مُضر أبو هريرة سعدٌ جابرٌ أنس *** صدّيقةٌ وابن عباسٍ كذا ابن عمر ولك أن تعجب من إمام دار الهجرة مالك بن أنس وقد كانت له من الأبناء يحيى وحماد وفاطمة، لم يرث الأولاد علم أبيهم وإنما ورثته فاطمة، التي كانت تختبئ في ستر لها إذا جلس أبوها للدرس وأخذ الطلاب يقرؤون عليه، فإذا لحن القارئ أو أسقط شيئا نقرت الستر فتنبه مالك وقال للقارئ: تركت كذا وكذا. ولما زوج سعيد بن المسيب كريمته لطالب علم فقير، هم بعد الزواج للخروج إلى درس ابيها فقالت له إلى أين فقال إلى طلب العلم عند سعيد بن المسيب فقالت له: اجلس هنا أعلمك علم سعيد وكانت هناك العالمة الجليلة السيدة فاطمة بنت الحسين بن علي، من أنبغ نساء عصرها وأكثرهن علماً وورعاً، وقد اعتمد على روايتها كل من ابن اسحاق وابن هشام في تدوين السيرة النبوية. والسيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي، كانت تحضر مجلس الإمام مالك بن أنس في المدينةالمنورة، واشتهرت بعلمها وصلاحها، وبعد انتقالها إلى مصر، أقامت مجلساً علمياً كان يحضره أشهر علماء عصرها، وفي مقدمتهم الإمام الشافعي الذي كان يزورها ويتدارس معها مسائل الفقه وأصول الدين، ولم ينقطع عن زيارتها والاستزادة من علمها حتى توفاه الله، وكانت من المشيعين له. وزينب بنت عباس البغدادية، كانت من أهل الفقه والعلم، وكانت تحضر مجالس شيخ الإسلام ابن تيمية. وشهدة بنت الأبري الكاتب، كانت من المبرزين في علوم الحديث، وقد تتلمذ على يديها عدد كبير من العلماء، منهم ابن الجوزي وابن قدامة المقدسي. وأم حبيبة الأصبهانية كانت من شيوخ الحافظ المنذري الذي ذكر انه حصل على اجازة منها. وفاطمة بنت علاء الدين السمرقندي كانت فقيهة جليلة، وكانت ترد على زوجها الشيخ علاء الكاساني صاحب البدائع خطأه في الفقه إذا أخطأ. وفي الغرب الإسلامي، كانت فاطمة الفهرية أم البنين، التي بنت جامع القرويين في فاس في القرن الثالث الهجري، الذي صار بعد فترة وجيزة من بنائه، جامعة إسلامية هي الأولى من نوعها في العالم الإسلامي، بل في العالم كله، كانت عالمة فاضلة محسنة، كما كانت أختُها مريم، التي بنت جامع الأندلس في فاس أيضا. ومن أشهر المحدّثات في الأندلس، أم الحسن بنت سليمان، ذكر انها روت عن محدث الأندلس بقي بن مخلد سماعاً منه وقراءة عليه، وقد حجت والتقت بعلماء الحجاز، وسمعت منهم الحديث والفقه، وعادت إلى الأندلس ثم حجت مرة ثانية، وتوفيت في مكةالمكرمة. وحينما رحل ابن دحون حبيب بن الوليد إلى المشرق رأى في المدينة جارية ضليعة في علم الحديث فتزوجها وعاد بها للأندلس وكأنما عاد بثروة هائلة. ومن المحدثات الفقيهات في الغرب الإسلامي ايضا، اسماء بنت اسد بن الفرات، التي تعلمت على يد أبيها صاحب الإمامين الكبيرين أبي حنيفة ومالك بن أنس، واشتهرت برواية الحديث والفقه على مذهب أبي حنيفة. وخديجة بنت الإمام سحنون العالمة الجليلة التي قال عنها الإمام القاضي عياض في كتابه «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك»: «كانت خديجة عاقلة عالمة ذات صيانة ودين، وكان نساء زمانها يستفتينها في مسائل الدين ويقتدين بها في معضلات الأمور». وقد ذكر ابن حزم في كتابه الشهير المترجم الى معظم لغات العالم «طوق الحمامة في الألفة والايلاف»، ان النساء في الأندلس كن يعملن في مهن متعددة، منها الطب والدلالة والتعليم والصنائع كالغزل والنسيج، وقد ذكر فيه أنه تعلم عليهن في صغره. والقائمة تطول وتطول ولكننها لا يسعنا إلا أن نقول بكل ثقة: أيها العالم نحن أول من عرف للمرأة قيمتها، وأول حضارة أظهرت عبقريتها.!