كمال حبيب الله سبحانه وتعالي يقول " والآخرة خير وأبقي " ، وفي موضع آخر يقول " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان " أي لهي الحياة الحقيقية التي لاتشبه أي من عناصرها الحياة الدنيا إلا في الاسم فقط ، وكنت قرأت عن " الميل الأخضر " وهو إشارة للأيام المتبقية من الحياة لسجين محكوم عليه بالإعدام ، وكل يوم من الأيام التي تمر عليه تعد خطوة في الميل الأخضر نحو خط نهاية حياته ، وفي الواقع لو حاولنا النظر لأعمارنا لوجدناها ميل أخضر نمشي عليه وكل يوم يمر منها هو خطوة ناحية الآخرة وناحية نهاية أعمارنا . الله سبحانه وتعالي منحنا أعمارنا وهي الفضاء التي نعمل فيه ونكدح " يأيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحاً فملاقيه " فهذا معني الكدح أي الضرب في الأرض والحياة بحلوها ومرها ولكنك في النهاية ملاق ربك ، وابتلاء الدنيا أنها زينة وهي " متاع الغرور " أي المتاع الكاذب الذي يحرف وجهة الإنسان عن المقصد الذي خلقه الله من أجله . كنت قبل أن أكتب المقال من ساعة واحدة مع زوجتي وابنتي الصغري آخر العنقود " منة الله " لشراء حاجيات العيد ، وكلما حاولنا أن نجد مقاساً للبنت قالت البائعة إنه غير موجود فكل المقاسات خلصت وانتهت ، أي أن الناس بكروا منذ أول الشهر استعداداً للعيد وحتي يجدوا لأولادهم مايناسبهم ، وساءلت نفسي لماذا يسارع الناس لتدبير أمر الدنيا وعمل الترتيبات اللازمة للاستفادة منها ولا يهتمون نفس الاهتمام بأمر الآخرة ، فتجد المرء يقول لك " ياعم احيينا النهارده وموتنا بكره " ، وهذه نزعة عدمية مقيتة تعبر عن الاستهتار المقزز واللامبالاة المستبطنة لروح إلحادية ، وهؤلاء كمن يقول " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ومانحن بمبعوثين " وهناك من يقول لك " إن الله غفور رحيم " ، وهذا صحيح فالله يقول " ورحمتي وسعت كل شئ " ولكنه أكمل وقال تعالي " فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة " والله سبحانه وتعالي يقول " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم " ، أي أن الله غفور رحيم لمن رأي وشهد عظمته وجلاله وقدرته ، فهو الحكيم ، والحكمة تعني وضع الشئ في موضعه ، ومن هنا فالطمع في المغفرة بدون بذل الجهد والعمل هو نوع من الاستهانة والاستهتار أيضاً وتعبير عن قوله تعالي " وماقدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته " ، فتقدير الله حق قدره يعني شهود صفاته العيا وأسمائه الحسني علي مواضعها الصحيحة . ولما كان الله يحب توبة عبده ويحب الرحمة له فإنه أمده بأسباب العافية من عذابه وعقابه ، فلم يكتف بميثاق الفطرة ولكنه أرسل الرسل ، ومن بعدهم الدعاة والوعاظ ، ودعا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشرع مناسبات التوبة والرحمة ومن أعظمها مناسبة الشهر الكريم " إن لله في أيام دهركم لنفحات فالتمسوها " ، فالشهر الكريم هو أعظم الأسباب التي توصل المسلم لبر الأمان من الدار الدنيا للدار الآخرة . وأنا أطالع التراث الشعبي للاحتفال بالشهر أجد الناس يقولون " والله لسه بدري ياشهر الصيام " أي لا تسرع أيامك خطاها فتدعنا ونحن لا زلنا بعد لم نعبر إلي بر الأمان ، فأيام الشهر تمر بسرعة كأنها الريح ، لانكاد نطمأن حتي يغادرنا مسرعا إلي ربه بأعمالنا " يأيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحاً فملاقيه " ، وأشعر أنه لسه بدري ياشهر الصيام ، الهوينا الهوينا ارفق بنا ولا تعجل علينا مودعاً ، إن شهر الصيام في إسراعه بنا إلي ربنا الرحيم الذي ينعم علينا بعفوه وعافيته مع أقل جهد منا ، الشهر في عجلته وتلفته ولملمة أثوابه مغادرا هو يقول لنا من طرف خفي انتبهوا فأنا مثال الدنيا التي تقبل عليكم متزينة لعوب ثم تدبر تاركة وراءها أهلها والحسرة تحيط بهم ، لكن الشهر يغادرنا ونحن تحيطنا رياح الأمان والمغفرة تسير عالمنا ومراكبنا وفلكنا إلي مرافئ الأمان الأولي عودة حميدة إلي رب غفور . [email protected]