دلت الأدلة الشرعية على وجوب صيام شهر رمضان ،وعلى أن الصيام يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، ولكن من المعلوم أن طول كل من النهار والليل يختلف من مكان إلى مكان ، وكذلك يختلف باختلاف فصول السنة حتى إن هناك بعض دول شمال أوربا يصل فيها طول النهار في بعض أشهر الصيف إلى عشرين ساعة ، ولما كانت الشريعة الغراء هي شريعة التيسير ورفع الحرج فقد حدا ذلك ببعض أهل العلم إلى محاولة إيجاد مخرج ييسر على المسلمين المقيمين في تلك البلاد ، فاجتهد بعضهم فأفتى بأنه يجوز للمسلمين المقيمين في البلاد التي يزيد فيها عدد ساعات النهار عن ثماني عشرة ساعة أن يصوموا من طلوع الفجر بمقدار ما يصومه أهل مكة من الساعات دون انتظار لغروب الشمس في بلادهم . وقد كان من مستندهم في ذلك القياس علي حديث الدجال الذي أخرجه مسلم من حديث النواس بن سمعان وفيه أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أن الدجال يلبث في الأرض أربعون يوما ، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وبقية أيامه كأيامكم ، وفيه : ( قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كالسنة يكفينا فيه صلاة يوم ، قال : لا ،أقدروا له قدره ).[ أخرجه مسلم ( 2937 )]. والحق أننا مع تقديرنا لما يبتغيه أصحاب ذلك القول من التيسير على المسلمين إلا أن الواجب علينا أن نقرر أنه لا بد لكل قول من دليل شرعي يستند عليه ،خاصة وأن الأمر المطروح هو من أمور العبادات التي نعلم جميعاً أن الأصل فيها التوقيف ،وعدم إحداث شيء على خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام . وحديث الدجال الذي استندوا وارد في حالة أخرى غير هذه الحالة ،وهي أن يطول اليوم حتى يكون كسنة أو كشهر أو كجمعة ،ومعنى ذلك أن مقدار ما بين الفجر والفجر الذي يليه يزيد عن اليوم المعتاد وهو أربع وعشرون ساعة، فهنا نقدر له قدره كما أمرنا الرسول صلى االله عليه وسلم ، فالبلاد التي يكون فيها الليل ستة أشهر مثلاً والنهار مثل ذلك هي التي يقدر فيها للنهار عدد من الساعات ولليل عدد من الساعات. لذا فإني أرى أن الصواب خلاف ما ذكر في هذه الفتوى ، وذلك أن الله تعالى قد أمرنا كما أسلفنا بأن نصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس حيث قال تعالى : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) .[البقرة :187[، وفي الحديث الصحيح : (أن بلالاً كان يؤذن بليل ، فقال رسول االله صلى االله عليه وسلم : كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر) [ أخرجه البخاري (1918) من حديث عائشة رضي الله عنها ]وفيه أيضاً ( : إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم )[أخرجه البخاري (1945 ) ومسلم ( 1100)من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ]، ففي هذه النصوص دليل قاطع على وجوب إمساك الصائم عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ،سواء طال النهار أم قصر، ما دام لا يزيد مجموع الليل والنهار عن أربع وعشرين ساعة، لم تستثن الأحاديث أحداً من هذا العموم . ثم إننا نتساءل : من أين جاؤوا بتحديد الساعات التي يجوز بعدها عدم اعتبار العلامات الشرعية بأنها ثماني عشرة ساعة ؟ لِمَ لا تكون تسع عشرة ساعة مثلاً ؟ ولم لا تكون سبع عشرة ساعة ؟ فإنْ قالوا : إننا نرى أن الإنسان لا يستطيع أن يصوم أكثر من ثماني عشرة ساعة ،قلنا هذا ليس بصحيح ،فإنَّ كثيراً من الناس يمكنهم الصيام أكثر من ذلك ،وقد كان بعض الصحابة يواصلون الصيام لأيام ،وثبت نهيه صلى االله عليه وسلم لهم عن الوصال ،لكنه رخص لهم أن يواصلوا صيامهم إلى وقت السحور ؛ وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي االله عنه أنه سمع رسول االله صلى االله عليه وسلم يقول ( : لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر . قالوا : فإنك تواصل يا رسول االله ، قال : لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني) [أخرجه البخاري (1967) ]. ومعنى ذلك أنه أجاز لهم الصيام من السحر إلى السحر أي لمدة أربع وعشرين ساعة تقريباً ،وأن ذلك في مقدور الإنسان. كما أن الواقع الحالي يثبت أيضاً أنه لا صحة لهذا التحديد ، فقد عشت في ألمانيا عدداً من السنين وأعلم جيداً أن المسلمين هناك يصومون رمضان حتى لو وقع في شهر مايو أو يونيو كما هو الحال هذا العام ، مع أن النهار يصل إلى حوالي تسع عشرة ساعة في بعض المناطق ، ومنهم من يعمل في أعمال شاقة ، فدل ذلك على أن هناك من يستطيع الصيام رغم طول النهار وزيادته على ثماني عشرة ساعة . وعلى ذلك فالبلاد التي يتعاقب فيها ليل ونهار في خلال أربع وعشرين ساعة باقية على الأصل في وجوب الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، مهما طال النهار أو قصر ،لكن إن وجد الصائم مشقة شديدة ولم يستطع أن يكمل صيام يومه فله حينئذ الفطر على أن يقضي في أيام أخر لقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) [ البقرة : 286]. هذا وقد صدر عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قرار بمثل هذا الذي قلناه ،وذلك في دورته الخامسة المنعقدة في ربيع الثاني 1402 ه وقد جاء فيه : (( ... وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب، وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل، وكان مجموع زمانهما أربعاً وعشرين ساعة، ويحل لهم الطعام والشراب والجماع، ونحوها في ليلهم فقط، وإن كان قصيراً، فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد. وقد قال الله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة:187 ] ، ومن عجز عن إتمام صوم يوم لطوله، أو علم بالأمارات، أو التجربة، أو إخبار طبيب أمين أن الصوم يفضي إلى إهلاكه، أو إحداث مرض به، أو زيادة أو بطء برئه، فله أن يفطر، ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء. قال تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) [ البقرة:185] ،وقال االله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) [البقرة:286 ] وقال: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج [الحج:78]. والله ولي التوفيق)) . ونفس هذا الحكم قد صدر به قرار من مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بتاريخ 12/4/1398ه .هذا والله تعالى أعلى وأعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل .