باستثناء أيام الثورة ال 18 "25 يناير - 11 فبراير2011" التى تجلت فيها كل المعانى النبيلة من الوحدة بين الفرقاء، والإيثار، والإصرار على هدف وهو "الشعب يريد إسقاط النظام"، فإن مصر لم تشهد منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، وقد لا تشهد مرة أخرى، مثل هذا التوحد على قلب رجل وهدف واحد، بل حل محل ذلك الانقسام، والصراع، والانفلات، والفوضى، والأنانية، وكل الرزايا البشرية المقيتة التى تشوه ثوب الثورة النقى وتجلله بعار ممارسات بعض أبنائها الذين يتحالفون اليوم مع أعدائها. يبدو أن من كانوا فى الميدان فى تلك الأيام هم مصريون من نوع آخر يندر أن تجد مثلهم اليوم، تمامًا مثل المصريين الذين بنوا الأهرامات، بينما أحفادهم اليوم يبنون أهرامات أخرى لكن من القمامة، والرزالة، والسقوط القيمى والأخلاقي، والتطاحن على المصالح الشخصية، وتصفية الحسابات، وليذهب الوطن إلى الجحيم، ليس كل المصريين بالطبع، فهناك من أصابهم اليأس من التغيير والإصلاح والإنجاز الموعود فانصرفوا عن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم ثوارًا إلى أعمالهم لتوفير اللقمة وحبة الدواء بالكاد. تجلى هذا الانصراف فيما جرى تسميته الثورة الثانية فى 24 أغسطس "الجمعة الماضية"، ثم تعدل الاسم إلى مليونية 24 أغسطس، لما تأكد الداعون لها أن وصف ثورة ثانية صار وهمًا كبيرًا، فالثورات حراك مجتمعى تغييرى واسع، وليس قرارًا نخبويًا يُتخذ على الشاشات. ما حصل فى هذا اليوم لم يكن ثورة، ولا مليونية، ولا حتى مظاهرة مقنعة بأنها تمثل الشعب المصرى، أو أغلبيته، أو نصفه، أو أقل من ذلك، بل كانت شيئًا مخجلاً أجمع الإعلام المصرى والعربى على وصفه بالفشل. وهذا الفشل كان محسومًا عندى منذ قرأت عن هذا الأمر، وذلك بالنظر إلى المطالب المرتبكة والمتغيرة وغير الواقعية، وبالنظر إلى طبيعة مَن قاموا بالدعوة، فهم متلونون، متقلبون، فاقدون للمصداقية، تُحركهم مصالحهم، وأغراض من يقفون وراءهم، بجانب ما لديهم من نوازع عدائية مرضية تجاه الخصوم، وليس الخلاف السياسى القابل للنقاش بأفق منفتح. لكن مشكلة هؤلاء الأساسية التى صدمتهم أنهم تورطوا فى دعوة ليسوا على قدرها مستندين على وجود المجلس العسكرى القديم برئاسة المشير طنطاوي، وعلى تنازع السلطة بينه وبين الرئيس مرسي، وهم كانوا يعتبرون وجود "العسكري" بمثابة دعم معنوى وسياسى لهم، وربما دعم مادى أيضا حيث قيل إن "العسكري" سينتهز 24 أغسطس ليطيح بمرسى باعتباره رئيسًا ضعيفًا غير قادر على تأمين البلاد التى تنزلق للخطر، لكن حصل أن مرسى ضرب ضربته القوية الاستباقية غير المتوقعة مستفيدًا من جريمة رفح بالإطاحة بطنطاوى وعنان وكبار القادة وإعادة ترتيب أوضاع المؤسسة العسكرية والمجلس الأعلى بقادة جدد ليكون هو القائد الفعلى وتكون المؤسسة معه وليست بموازاته أو قبله أو مهددًا لشرعيته، هذه العملية أربكت كل خصوم الرئيس وحكمت مبكرًا على ما يسمى ب 24 أغسطس بالفشل الذريع، وهذا ما حصل بالفعل، بل إن كثيرين كانوا سيظهرون عند "المنصة" ويتحدثون ويتزعمون ويدعون أباهم العسكرى للانقلاب على الرئيس واستلام قيادة البلاد كاملة سارعوا بالقفز من السفينة وتنصلوا من الدعوة وتحولوا إلى حملان وديعة يطالبون فقط بحق التظاهر السلمى بعد أن فقدوا من كانوا يحتمون به. الأخطر هم المصريون العاديون ممن يسمون حزب الكنبة، والفلول، وأنصار أحمد شفيق، والغاضبين بسبب تضرر أوضاعهم، فهم جمهور الثورة الثانية المزعومة التى خذلوها خذلانا مبينا لسبب بسيط يرجع إلى الهدف الحاسم الذى أحرزه مرسى فى شباك المجلس العسكرى، فإذا كانت هذه الفئات العريضة من المصريين ترى أن طنطاوى ورفاقه كان لهم دور كبير فى إجبار مبارك على التنحى بعد 30 عامًا من الحكم بقبضة حديدية فإذن هم الأقوى منه، والمصرى بطبيعته يميل إلى مَن يمسك بالسلطة، ويحب العيش فى كنف دولة وحاكم قويين، ولذلك انجرف المصريون وراء المجلس العسكرى بجانب تقديرهم الطبيعى للجيش، ثم لما يأت مرسى الذى يجرى تصويره على أنه رئيس ضعيف وتتم إهانته بشكل مكثف ومنسق ليقوم هو بالإطاحة بالقادة الكبار الذين سبق وأطاحوا قبل سنة ونصف بمبارك نفسه فيكون مرسى قد احتل بذلك فى العقل الجمعى الشعبى قوة ثلاثية تجعله مهابًا ومرغوبًا ومحل إعجاب والتفاف من المصريين الذين مازالت السلطة وشخص الرئيس القوى ذا قيمة كبيرة عندهم يتحصنون وراءه ويعتبرونه الأب أو الأخ الأكبر، لذلك لم يقتنع الملايين منهم بجدوى دعوتهم لثورة جديدة على رئيس يمسك بالخيوط فى يديه، ويقيل الكبار، ويقدم فى أول شهرين له بالحكم رسائل إيجابية تجعل كثيرين ينتبهون إلى أنه رجل مختلف عما يتم تصويره فى الإعلام، لذلك هو يستحق من جانبهم الاحتشاد حوله. كلمات ثورة، ومليونية، ومظاهرة، ووقفة، واحتجاج، وغيرها من أشكال الاعتراض والتعبير عن الموقف صارت مبتذلة فى مصر اليوم من كثرة إطلاقها على ممارسات لا تسمو إلى حقيقة المعانى النبيلة لها، فليس كل عدة مئات أو ألوف يجتمعون فى مكان واحد يطلق عليهم ثورة أو مليونية، وليس كل من يتجمهرون لقطع طريق، أو تعطيل المصالح، أو الهجوم على قسم شرطة، أو هيئة حكومية، أن يقال إنها مظاهرة أو احتجاج لها مطالب مشروعة. كل المعانى الجميلة التى أنتجتها ثورة 25 يناير يجرى تشويهها وابتذالها بكثير من ممارسات المرضى النفسيين والمهووسين والأفاقين والمتحولين والمستبدين الجدد. [email protected]