حرب البسوس هى حرب قامت بين قبيلتى بكر وتغلب واستمرت 40 عاما من 494 م إلى 534 م، بسبب مقتل كليب بن ربيعة التغلبى على يد جساس بن مرة البكرى وانتهت بانتصار تغلب على بكر. كان لحرب البسوس تأثير فى الأدب العربى وخصوصا فى شعر الرثاء والحماسة فكان للمهلهل شعر شهير فى رثاء أخيه والتحريض على الثأر له، كما أن القصة قد دخلت الأدب العربى على شكل حكاية ملحمية فى تصوير الحرب والثأر ونهاية الحرب، لم يثبت أن اسم المهلهل سالما، وما لاسم "الزير سالم" وجود إلا فى الأسطورة التى ظهرت فى أواسط القرن الماضى، عندها كان أصحاب المقاهى يعتمدون على ما يسمى ب "الحكواتي" ليسرد الأساطير التى تساعد على إبقاء الزبائن أطول مدة ممكنة، وكان من بين تلك الأساطير أسطورة الزير سالم، وتغريبة بنى هلال، وعنترة، وسيف بن ذى يزن، وكلها قصص تختلط فيها الحقائق بالخيالات، أما المهلهل فقد ثبت أن اسمه عديا يقول الحارث بن عباد: لهف نفسى ولم أعرف عديا ..إذ أمكنتنى من عدى اليدان. وهذه القصة حين فض كليب جموع اليمن فى خزازى وهزمهم، فاجتمعت عليه معد كلها، وجعلوا له قسم الملك وتاجه وطاعته، واستمر بذلك حيناً من دهره، ثم دخله زهو شديد، وبغى على قومه لما هو فيه من عزة وانقياد معدّ له، حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمى مواقع السحاب فلا يرعى حماه، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالاً له، ولايختبئ أحد فى مجلسه غيره، ولا يغير إلا بإذنه، ولا تورد إبل أحد، ولا توقد مع ناره، ولم يكن بكرى ولا تغلبى يجير رجلا ولا بعيراً أو يحمى إلا بأمره، وكان يجبر على الدهر فلا تخفر ذمته، وكان يقول: وحش أرض فى جوارى، فلا يهاج، وكان هو الذى ينزل القوم منازلهم ويرحلهم، ولا ينزلون ولا يرحلون إلا بأمره، وقد بلغ من عزته وبغيه أنه اتخذ جرو كلب، فكان إذا نزل به كلأ قذف ذلك الجرو فيه فيعوى، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه، وكان يفعل هذا بحياض الماء فلا يردها أحد إلا بإذنه أو من آذن بحرب، فضرب به المثل فى العز فقيل: أعز من كليب وائل، وكان يحمى الصيد فيقول: صيد ناحية كذا وكذا فى جوارى فلا يصيد أحد منه شيئاً. وتزوج كليب جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وكان لمرة عشرين بنين كان جساس أصغرهم، وكانت بنو جشم وبنو شيبان تقيم فى دار واحدة إرادة الجماعة ومخافة الفرقة. وحدث أن كليباً دخل على امرأته جليلة يوماً فقال لها: هل تعلمين على الأرض أمنع منى ذمة؟ فسكتت، ثم أعاد عليها الثانية فسكتت، ثم أعاد عليها الثالثة فقالت: نعم، أخى جساس (وهو جساس بن مرة، كان فارساً شهماً أبياً، وكان يلقب الحامى الجار، المانع الذمار، وهو الذى قتل كليباً، مات سنة 534 م)، وندمائه ابن عمه عمرة المزدلف بن أبى ربيعة بن ذهل ابن شيبان، فسكت كليب، ومضت مدة، وبينما هى تغسل رأسه ذات يوم إذ قال لها: من أعز من وائل؟ قالت: أخواى جساس وهمام، فنزع رأسه من يدها وخرج. وكانت لجساس خالة اسمها البسوس بنت منقذ، جاءت ونزلت على ابن أختها جساس، فكانت جارة لبنى مرة، ولها ناقة خوارة، ومعها فصيل لها، فلما خرج كليب غاضباً من قول زوجه جليلة رأى فصيل الناقة فرماه بقوسه فقتله، وعلمت بنو مرة بذلك، فأغمضوا على ما فيه وسكتوا، ثم لقى كليب ابن البسوس فقال له: ما فعل فصيل بناقتكم؟ فقال: قتلته وأخليت لنا لبن أمه، وأغمضت بنو مرة على هذا أيضاً. ثم أن كليباً أعاد القول على امرأته فقال: من أعز من وائل؟ فقالت: أخواى، فأضمرها فى نفسه وأسرها وسكت، حتى مرت به إبل جساس وفيها ناقة البسوس، فأنكر الناقة ثم قال: ماهذه الناقة؟ قالوا: لخالة جساس، فقال: أو بلغ من أمر ابن السعدية (أى جساس) أن يجير على بغير إذنى؟ ارم ضرعها يا غلام، فأخذ القوس ورمى ضرع الناقة، فاختلط دمها بلبنها. وراحت الرعاة على جساس فأخبروه بالأمر، وولت الناقة ولها عجيج حتى بركت بفناء البسوس، فلما رأتها صاحت: وا ذلاه ، فقال لها جساس: اسكتى فلك بناقتك ناقة أعظم منها، فأبت أن ترضى حتى صاروا لها إلى عشر، فلما كان الليل أنشأت تقول بخطاب سعداً أخا جساس وترفع صوتها تسمع جساساً: يا أبا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل فإنى فى قوم عن الجار أموات ودونك أذونى إليك فإننى محاذرة أن يغدروا ببنياتى .. لعمرك لو أصبحت فى دار منقذ لما ضم سعد وهو جار لأبياتى.. ولكننى أصبحت فى دار معشر متى يعد فيها الذئب يعدو وعلى شاتى. فلما سمعها جساس قال لها: اسكتى لا تراعى إنى سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة، سأقتل غلالاً، وهو فحل إبل كليب لم ير فى زمانه مثله، وإنما أراد جساس بمقالته كليباً نفسه. ثم ظعن ابنا وائل بعد ذلك، فمرت بكر على نهى (أى غدير) يقال له شبيث، فنفاه كليب عنه وقال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مروا على نهى آخر يقال له الأحص فنفاهم عنه وقال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مروا على بطن الجريب (واد عظيم) فمنعهم إياه، فمضوا حتى نزلوا الذنائب، واتبّعهم كليب وحيه حتى نزلوا عليه، فمر عليه جساس ومعه ابن عمه عمرو بن الحارث بن ذهل، وهو واقف على غدير الذنائب، فقال له: طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشا، فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون، فقال له: هذا كفعلك بناقة خالتى، فقال له: أوقد ذكرتها أما إنى لو وجدتها فى غير إبل مرة لاستحللت تلك الإبل بها أتراك مانعى أن أذب عن حماى، فعطف عليه جساس فرسه فطعنه برمح فأنفذ حضنيه (الحضن مادون الإبط إلى الكشح). فلما تداءمه الموت قال: يا جساس، اسقنى من الماء، فقال: ماعلقت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمك إلا ساعتك هذه، فالتفت إلى عمرو وقال له: يا عمرو، أغثنى بشربة ماء، فنزل إليه وأجهز عليه. وأمال جساس يده بالفرس حتى انتهى إلى أهله على فرسه يركضه، وقد بدت ركبتاه، ولما رأته أخته قالت لأبيها: إن ذا لجساس آتى كاشفاً ركبتاه، فقال: والله ما خرجت ركبتاه إلا لأمر عظيم. فلما جاء جساس قال له: ما وراءك يا بنى؟ قال: ورائى أنى قد طعنت طعنة لتشغلن بها شيوخ وائل زمنا، قال: وماهي؟ لأمك الويل أقتلت كليبا؟ فقال: نعم، فقال أبوه: إذن نسلمك بجريرتك، ونريق دمك فى صلاح العشيرة والله لبئس ما فعلت، فرقت جماعتك وأطلت حربها وقتلت سيدها فى شارف من الإبل والله لا تجتمع وائل بعدها ولا يقوم لها عماد فى العرب ولقد وددت أنك وإخوتك كنتم متم قبل هذا مابى إلا أن تتشاءم بى أبناء وائل، فأقبل قوم مرة عليه وقالوا: لا تقل هذا ولا نفعل فيخذلونه وإياك، فإمسك مرة. ولما قتل كليب اجتمعت نساء الحى للمأتم، فقلن لأخت كليب: رحلى جليلة من مأتمك، فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب، فقالت لها: يا هذه اخرجى عن مأتمنا فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا، فخرجت وهى تجر أعطافها، فقالت لها أخت كليب: رحلة المعتدى وفراق الشامت ويل غداً لآل مرة من السكرة بعد السكرة، فبلغ قولها جليلة فقالت: وكيف تشمت الحرة بهتك سترها وترقب وترها أسعد الله جد أختى أفلا قالت: نفر الحياء وخوف الاعتداء. ولما ذهبت إلى أبيها مرة قال لها: ما وراءك يا جليلة ؟ فقالت: ثكل العدد وحزن الأبد وفقد حليل وقتل أخ عن قليل وبين ذين غرس الأحقاد وتفتت الأكباد، فقال لها: أو يكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات؟ فقالت: أمنية مخدوع ورب الكعبة أبا لبدن تدع لك تغلب دم ربها. وكان همام بن مرة ينادم المهلهل أخا كليب وعاقده ألا يكتمه شيئاً، فلما ظعن مره بأهله أرسل إلى ابنه همام فرسه مع جارية، وأمره أن يظعن ويلحق بقومه، وكانا جالسين، فمر جساس يركض به فرسه مخرجاً فخذيه، فقال همام: إن له لأمراً والله ما رأيته كاشفاً فخذيه قط فى ركض، ولم يلبث إلا قليلاً حتى انتهت الجارية إليها، وهما معتزلان فى جانب الحى، فوثب همام إليها، فأخبرته أن جساساً قتل كليباً، وأن أباه قد ظعن مع قومه، فأخذ همام الفرس وربطه إلى خيمته ورجع، فقال له المهلهل: ما شأن الجارية والفرس؟ وما بالك؟ فقال: اشرب ودع عنك الباطل، قال: وما ذاك؟ فقال: زعمت أن جساساً قتل كليباً، فضحك المهلهل وقال: همة أخيك أضعف من ذلك، فسكت ثم أقبلا على شرابهما، فجعل مهلهل يشرب شرب الآمن، وهمام يشرب شرب الخائف، ولم تلبث الخمر أن صرعت مهلهلا، فانسل همام وأتى قومه من بنى شيبان وقد قوضوا الخيام وجمعوا الخيل والنعم ورحلوا حتى نزلوا بما يقال له النهى. ورجع المهلهل إلى الحى سكرانا فرآهم يعقرون خيولهم ويكسرون رماحهم وسيوفهم فقال: ويحكم ما الذى دهاكم؟ فلما أخبروه الخبر قال: لقد ذهبتم شر مذهب أتعقرون خيولكم حين احتجتم إليها؟ وتكسرون سلاحكم حين افتقرتم إليه، فانتهوا عن ذلك، ورجع إلى النساء فنهاهن عن البكاء وقال: استبقين للبكاء عيوناً تبكى إلى آخر الأبد. ولما أصبح غدا إلى أخيه فدفنه وقام على قبره يرثيه، وما زال المهلهل يبكى أخاه ويندبه ويرثيه بالأشعار وهو يجتزئ بالوعيد لبنى مرة حتى يئس قومه وقالوا: إنه زير نساء، وسخرت منه بكر، وهمت بنو مرة بالرجوع إلى الحمى، وبلغ ذلك المهلهل فانتبه للحرب وشمر ذراعيه وجمع أطراف قومه، ثم جز شعره وقصر ثوبه وآلى على نفسه ألا يهتم بلهو ولا يشم طيباً ولا يشرب خمراً ولا يدهن بدهن حتى يقتل بكل قطرة دم من كليب رجلاً من بنى بكر بن وائل، وحث بنى تغلب على الأخذ بالثأر، فقال له أكابر قومه: إننا نرى ألا تعجل بالحرب حتى نعذر إلى إخواننا فبالله ما تجدع بحرب قومك إلا أنفك ولا تقطع إلا كفك.. فقال: جدعه الله أنفاً وقطعها كفاً والله لا تحدثت نساء تغلب أنى أكلت لكليب ثمناً ولا أخذت له دية، فقالوا: لا بد أن تغض طرفك وتخفض جناحك لنا ولهم، فكره المهلهل أن يخالفهم فينفضوا من حوله فقال: دونكم ما أردتم. وانطلق رهط من أشرافهم وذوى أسنانهم حتى أتوا مرة بن ذهل فعظموا ما بينهم وبينه، وقالوا له: إنكم أتيتم أمراً عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الإبل وقطعتم الرحم ونحن نكره العجلة عليكم دون الإعذار وإننا نعرض عليكم إحدى ثلاث، لكم فيها مخرج ولنا مرضاة. إما أن تدفعوا إلينا جساساً فنقتله بصاحبنا فلم يظلم من قتل قاتله، وإما أن تدفعوا إلينا هماماً فإنه ند لكليب، وإما أن تقيدنا من نفسك يا مرة فإن فيك رضا القوم. فسكت وقد حضرته وجوه بنى بكر بن وائل فقالوا: تكلم غير مخذول، فقال: أما جساس فغلام حديث السن ركب رأسه فهرب حين خاف فوالله ما أدرى أى البلاد انطوت عليه، وأما همام فأبو عشرة وأخو عشرة ولو دفعته إليكم لصيح بنوه فى وجهى وقالوا: دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره، وأما أنا فلا أتعجل الموت وهل تزيد الخيل على أن تجول جولة فأكون أول قتيل!! .. لكن هل لكم فى غير ذلك ؟ هؤلاء بنى فدونكم أحدهم فاقتلوه وإن شئتم فلكم ألف ناقة تضمنها لكم بكر بن وائل، فغضبوا وقالوا: إنا لم نأتك لترذل لنا بنيك ولا لتسومنا اللبن، ورجعوا فأخبروا المهلهل، فقال: والله ما كان كليب بجزور نأكل له ثمناً.