فاجأتنى بعض وسائل الإعلام العربية والدولية بسؤال وألحت عليه وهو: ألا تعد عمليات مصر العسكرية فى سيناء باستخدام معدات وجنود مخالفًا لما قررته معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التى حددت عدد القوات فى المنطقة "ب" بأربعة فرق من قوات حرس الحدود بما يلزمها من تجهيزات أرضية وبحرية دون قوات جوية، كما ورد تماماً فى الفقرة الثانية من المادة الأولى من الملحق الأول الخاص بالترتيبات الأمنية فى سيناء. كذلك تحدد الفقرة الثالثة من نفس المادة للمنطقة ج قوات الشرطة العادية بتسليح الشرطة ولمهام الشرطة بين سكان المنطقة. وقد طرح السؤال خلال برامج فضائية استمع المشاهدون فيها إلى تقارير المراسلين حول حجم العمليات ونوعية الأسلحة والقوات، وكلها تحت إدارة القيادة العامة للقوات المسلحة وليس وزارة الداخلية.. ولكن الوقائع طرحت ومعها هذا السؤال البرىء، وهو ما لم يطرحه الإعلام الإسرائيلى. ونظراً لأن السؤال يغرى من فى قلوبهم مرض بإجابات معينة، فإننى بادرت إلى إيضاح الحقائق الآتية فى سياق الإجابة. الحقيقة الأولى تتعلق بالسؤال: لماذا الإرهاب فى سيناء الآن ولماذا هذه العمليات الآن؟ فمن الواضح أن تاريخ الإرهاب لم يكن بمعزل عن التطورات السياسية، وحيث استخدم الإرهاب أداة فى صراعات العلاقات الدولية، مما أنتج فكرة نسبية الظاهرة الإرهابية، فما تعده إسرائيل إرهابا يعده غيرهم مقاومة مشروعة، وما كان مقاومة مشروعة فى عقود سابقة أصبح فى نظر اليوم عملاً إرهابياً مجنونا.. أى أن النسبية كانت فى الزمان والأطراف والمكان ثم هجمت الظاهرة الدينية فخلطت الأوراق، فلا يزال اغتيال السادات مثلا محل جدل، بين أنه عمل إرهابى، أو أنه عقوبة له على التحالف مع العدو، ولا يزال كل عمل يضر إسرائيل عملا إرهابياً فى نظرها مهما كانت الظروف. وتطبيقاً لذلك، فإن النظام السابق فى مصر قد أطلق يد إسرائيل فى سيناء وأغفل مبارك سيناء تماماً وفعل كل ما ينهى طابعها المصرى واتبع من السياسات ما جعل أهل سيناء غرباء فى وطنهم ونزع عنهم وطنيتهم، وكان ذلك كله لصالح إسرائيل، فأضاع سيناء الأرض والبشر وإن بقيت سيناء على الورق جزءاً من مصر، وهذا مكن إسرائيل من تشجيع الإرهاب فيها ضمن نظريتها طويلة الأجل للهيمنة على سيناء، بحجة أنها خارج نطاق السيطرة المصرية، وأن إسرائيل هى الأحق بها، وإلا لماذا عمت الفوضى ومظاهر الإرهاب سيناء بعد ثورة يناير ولماذا لم تعلن مصر مبارك شيئاً عن حقيقة الإرهاب، الذى ضرب سياحتها من قبل. ومعنى ذلك أن الإرهاب فى سيناء له ثلاثة أسباب وكلها تكونت فى سنوات مبارك المريرة: تطرف دينى وضيق معيشى وتمييز ضد سكان سيناء، وضعف الدولة المصرية وحضورها الكامل والفاعل والمقنع، وأخيراً المؤامرة. الحقيقة الثانية: أن الإرهاب الذى تدعى إسرائيل أنه يضرها، وهى فى الحق تستخدمه أداة لإضعاف مصر وتآكل صلة مصر بسيناء تمهيداً لاقتطاعها، يفترض أنه يهدد مصر قبل إسرائيل، وهو يرتبط بمظاهر سيادة الدولة على أراضيها، ولذلك لم يقل أحد حتى الآن من دمر أنابيب الغاز أكثر من 15 مرة ولماذا. ومن الواضح أن دخول إسرائيل إلى الأراضى المصرية عدة مرات وقتلها الجنود المصريين فى سيناء عام 2011 وأدى إلى الهجوم على سفارتها ووجودها الدبلوماسى كله فى مصر، بررته إسرائيل بعجز مصر عن صد الإرهاب الذى يهددها من سيناء بينما قتلت الجنود المصريين وليس الإرهابيين، وفى كل حالات العدوان الإسرائيلى منذ نشأتها فى المنطقة وحتى الآن تسوق نظرية الدفاع الشرعى عن النفس ولنا فى تأصيل ذلك دراسات سابقة، ولكن إسرائيل تفسر القانون الدولى على هواها ولم تثر مصر يوماً التزام إسرائيل فى نفس معاهدة السلام، التى تتباكى عليها والذى يحظر على الطرفين دخول أراضى الطرف الآخر إلا من النقاط التى يحددها هذا الطرف ووفق القواعد، التى يضعها، بينما استباحت إسرائيل كل شىء خاصة فى سيناء. الحقيقة الثالثة، هى أن من حق المجتمع والدولة فى مصر اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات عسكرية وأمنية وسياسية وإعلامية لحماية أراضى الدولة وسلامة المجتمع، فلا علاقة مطلقاً بين ما تقوم به مصر، وما تقرره معاهدة السلام من تحديد لنوعيات الأسلحة وأعداد الجنود فى مناطق سيناء الثلاث.. ذلك أن فلسفة معاهدة السلام فى سيناء تقوم على هدف مشترك وهو منع الاحتكاك العسكرى أو العدوان المتبادل بين مصر وإسرائيل، ولذلك فالمحظور الوحيد الذى وضعته المعاهدة هو تغيير مقادير القوات والأسلحة بشكل دائم وبما يهدف إلى النيل من قيمتها النفسية عند إسرائيل، رغم ما فى ذلك من جور على السيادة المصرية، وأن يكون هدف التغيير هو الهجوم على إسرائيل وهو أمر غير وارد مطلقًا سياسيًا وعسكريًا فى مصر إلا فى حالة العدوان الإسرائيلى.. ومعنى ذلك أنه لا علاقة مطلقاً لمعاهدة السلام بالعمليات العسكرية المصرية ضد الإرهاب، فالمعاهدة مخصصة لضبط العلاقة بين مصر وإسرائيل، أما العمليات العسكرية فمهمتها ضرب الإرهاب دفاعاً عن تراب مصر وتماسك شعبها وأمنها الداخلى الذى وضحت فيه أيدى كثيرة وأخطرها الموساد الإسرائيلى.. فعملية رفح تسىء أصلاً إلى كرامة الجيش والشعب والدولة وليست زيارة باراك ونتنياهو للدباباتين المصريتين المخطوفتين إلا تشفياً فى الجيش الذى هزمهم عام 1973، رغم مرارة عملية رفح، بل إن تعليق بن إليعازر على العملية بأنه صراع بين أجنحة السنة هو جزء من تأجيج إسرائيل للصراع الطائفى الذى سوف يحرق المنطقة لصالح إسرائيل، وهو ثمن الحماقة. الحقيقة الرابعة: تتعلق بالسؤال: لماذا تبارك إسرائيل عمليات الجيش المصرى التى نأمل ألا تكون بالتنسيق مع إسرائيل، ولم تعترض على إدخال المنطقة (ب)معدات تتجاوز ما ورد فى معاهدة السلام. هناك ثلاثة تفسيرات: الأول أن اعتراض إسرائيل يقوم على غير أساس قانونى، ومن شأنه أن يكشف زيف شكواها من الإرهاب الذى تدعمه قطعاً، كما يكشف تورطها فى دعمه، لأنه لا يعقل أن تدعى إسرائيل بحق أن الإرهاب مزدهر فى سيناء وفى نفس الوقت تعيق مصر عن مقاومته، كما تدرك إسرائيل أن العمليات انتقام لكرامة القيادة العسكرية، وقد وحدت مصر كلها ضد الإرهاب، فلا يعقل أن تعمل إسرائيل على توجيه هذه الوحدة خاصة بين الرئيس والمجلس العسكرى ضد إسرائيل نفسها، كما تدرك إسرائيل أن العملية درس عملى لقدرات الجيش المصرى ضد عصابات، سوف تعود مرة أخرى، بعد هدوء العاصفة.. وهنا تظهر أهمية وضع إستراتيجية تعمير سيناء كعلاج جذرى لهذه الظاهرة. التفسير الثالث هو أن مباركة إسرائيل للعمليات ولو شكليا يعطى انطباعاً بأن هناك تنسيقاً مع مصر، وأن إسرائيل سمحت بدخول الأسلحة طوعاً دون حاجة إلى تعديل الملحق الأول من المعاهدة، حتى تظل موافقتها هى أساس أى عمليات مصرية، وحتى تجهض أية مبررات مصرية لتعديل المعاهدة، رغم أن التعديل يبرره شعور مصر بمحدودية قدرتها السيادية وهى الدولة الوحيدة فى العالم، التى لا يستطيع جيشها أن يتحرك بحرية فى سيناء، التى سطر فيها بطولات لا تزال تثير فزع إسرائيل.