تبقى الجاهلية فى عمومها مذمومة, لكن كما ذكرنا فى المقال السابق فإن النبى صلى الله عليه وسلم، قد امتدح بعضا من قيم الجاهلية وأخلاقياتها إنصافًا لما كان عليه العرب قبل الإسلام, لكننا حين ننظر فى واقعنا المعاصر نلحظ تقدمًا فى مجالات كثيرة, ولا نكاد نجد تقدمًا موازيًا فى منظومة القيم أو الأخلاق بل قد نجد أحيانا تدنيا مروعا.. لذلك قد يرنو بعضنا إلى مواقف من آلاف السنين فيراها لا تزال تشع نورا, مع أنها لم تكن نابعة من دين أو رسالة, لكنها كانت تتسق مع فطرة سوية وسليمة. أبو سفيان وهرقل روى البخارى عن ابن عباس أن أبا سفيان أخبره: أن هرقل أرسل إليه وكانوا تجارًا بالشام فى فترة صلح الحديبية، فأتوه وهم بإيلياء (القدس) فدعاهم فى مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبا فقال: أدنوه منى وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إنى سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبنى فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا على كذبا لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألنى عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل؟ فيه قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه فى مدة لا ندرى ما هو فاعل فيها قال: ولم تمكنى كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه، قال ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسى بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمى هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أنى أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.. الشاهد: أن أبا سفيان (المُشرك وقتذاك) استحى أن يكذب وهو يصف النبى (ص) أمام هرقل, وكان بينه وبين رسول الله دم وعداوة فى الدين, كما أن (هرقل) كانت لديه معايير صحيحة للحكم على الناس, فلما وجدها فى رسول الله(ص) أيقن أنه نبى آخر الزمان ولم يكابر, وحين نرى اليوم كذبا صريحا ليل نهار عبر وسائل الإعلام للنيل من الإسلاميين ندرك كم كان أبو سفيان خصمًا شريفا نبيلا, وكم كان هرقل منصفًا, ومن ثم نتحسر على واقعنا المعاصر، الذى يصفه بعض الناس أنه أكثر تقدما وتحضرا!! [email protected]