فى اليابان لديهم ثقافة انتحار المسئولين فى حالة حدوث فشل أو هزيمة أو خسارة كبرى فى قطاع عملهم؛ لأنهم يحترمون مسئولياتهم حيال شعبهم.. عندنا لا نعرف حتى ثقافة الاستقالة، وكلنا نتذكر أن "زكريا عزمى"، مدير مكتب المخلوع، ظل يتردد على مكتبه بانتظام (عادى) بعد تنحى المخلوع بأسابيع وخلو منصب رئيس الجمهورية، الذى يدير مكتبه؛ حتى سيق إلى السجن بعد انكشاف جرائم فساده الهائلة. كنت أتوقع أن يكون الخبر الأول فى نشرات الأخبار بعد فاجعة رفح هو استقالة قائد حرس الحدود ومديرى المخابرات العامة والعسكرية ومحافظ شمال سيناء ومدير أمنها، ما لم نقل وزير الدفاع نفسه، فالعملية مُذلة ومُهينة نكست رؤوس شعبٍ برمته وأدمت قلبه وأبكت عيونه؛ شعبٍ منذ أن تطلع لحقه الطبيعى فى العيش بكرامة وعدالة وحرية ونزاهة؛ يدفع الثمن غاليًا من دماء شبابه؛ بغض النظر عن القاتل فكلهم يستهين بالدم المصرى؛ فالتكفيريون، الذين قتلوا جنود مصر ساعة الإفطار يستوون مع الصهاينة، الذين قتلوهم بعد جريمتهم بدقائق، ويستوى معهم من قبلهم شرطة العادلى وعسكر المشير وبلطجية الفلول. زمان.. عندما كنا نخرج فى المظاهرات المنددة لاستباحة الصهاينة والأمريكان لدماء المسلمين فى العراق والصومال وأفغانستان كنا نهتف قائلين "دم المسلم مش قُربان لليهود والأمريكان"، واليوم حق لنا أن نهتف "دم المصرى بقى متهان لأى كائن من كان"؛ نعم حتى الجيش المصرى فقد هيبته فقُتل جنوده البواسل غدرًا وهم يتناولون إفطارهم بعد صيام يوم حارٍ طويلٍ فى صحراء لاهبة؛ فقد الجيش المصرى هيبته يوم هجر قادته الخنادق والبنادق واستبدلوا بها اجتماعات القاعات والفنادق؛ للحفاظ على مكاسبهم التى يخشون ضياعها، وليسهموا ما استطاعوا فى عرقلة مسيرة الثورة وبث بذور الشقاق بين فصائل الثوار. ولكن عظم البلاء والخناجر التى تدمى القلوب هو جوقة المهرجين الراقصين على الدماء والأشلاء، الذين لم تردعهم قداسة الموقف وجلال الموت عن المضى سادرين فى غيهم ومواصلين لما اعتادوه من كذب وتشويه وافتراء، فهم لا يستطيعون إلا ذلك لأنهم يكذبون كما يتنفسون، وإن كانت تلك الفاجعة قد أضافت إلى صفاتهم (الحشرية) سلوكًا أخس وهو الشماتة، لذا فلا تستغرب منهم تلك الادعاءات الغريبة المريبة، التى تتهم مرسى وحماس والجماعات الإسلامية؛ بينما تبرئ الموساد والشين بيت. وبالمقابل تفاجئنا أخبار الهجمة العنترية من قوات الجيش على جبال سيناء بحجة الانتقام واستئصال شأفة المتطرفين؛ مكررين نفس خطأ المخلوع، حينما أبى أن يفهم هو وزبانيته أن علاج مشكلة سيناء لا تكون بالقمع والإرهاب للتركيع؛ بل بالتنمية والدمج والتطوير، وأتخوف كثيرًا أن تكون تلك الضربات عشوائية ارتجالية لامتصاص الغضب الشعبى وذر الرماد فى العيون، وإلا لماذا لم نر هذه العنترية قبل الفاجعة؟ وقد نُسب إلى مدير المخابرات العامة تصريحات بأن جهازه كانت لديه معلومات عن الهجوم، ولكنه لم يتخيل (يتخيل!) أن مسلمًا يقتل مسلمًا صائمًا، وهكذا فإن جهاز مخابراتنا (المحترف) يقدم (التخيلات) على (المعلومات). الحديث عن احتمال أن تكون الجريمة النكراء جزءًا من مخطط (أو مؤامرة) إفشال الدكتور مرسى ليس مستبعدًا، فهناك محاولة لربط الجريمة بإسلاميين كانوا بالسجون وأفرج عنهم مرسى بعفو رئاسى، واربط ذلك بتصريحات أبو حامض بأن تراب سيناء أغلى من كل الشعب الفلسطينى، وتهديدات العكش والبكرى للرئيس؛ ومن قبلها عزف إعلام الفلول على نغمة أن سبب أزمة الكهرباء والوقود بمصر هو أن المرسى (يهديها) لغزة؛ ويحدث كل هذا فى وقتٍ لا يزال الرئيس فيه مُكبلاً بالإعلان المكبل، ويده مغلولة عن تشكيل فريق رئاسى ووزارى وفق تصوره بسبب التزامه ببيان القوى الوطنية (بيان حمدى قنديل)؛ تلك القوى، التى ما لبثت بعد تكبيلها للرئيس بهذا البيان أن (فلسعت) وتراجعت عن مد يد العون والتعاون معه؛ فانسحبوا بصورة اعتذارات فجة ومتكررة ومشبوهة (طبعًا معظمهم لا يريد أن يحرق نفسه، وهو يتوقع انتخابات رئاسية محتملة بعد صدور الدستور الجديد)؛ ثم أضف إلى ذلك مؤامرات مسئولى الشرطة وأجهزة الخدمات لإفشال خطة المائة يوم، فالدولة الغويطة (حويطة). فى الحرب العالمية الثانية.. عندما كان هتلر يكتسح أوروبا بلدًا بعد بلد.. خرج رئيس الوزراء البريطانى "تشرشل" على شعبه وقال لهم: "ليس لكم عندى إلا الدموع".. أى أنه صارح الشعب بأن الوضع أسود (ومهبب) والأمل ضعيف.. الشعب وقف بجانبه.. وعانى معاناة مرة وخسر خسائر فادحة.. وفى النهاية انتصر تشرشل وشعبه.. واندحر العدو النازى.. وأنا أظن أن مصر فيها الآن من هم أشد إجرامًا ونازيةً من هتلر.. ولكنها لا تجد بين ظهرانيها من وقفوا خلف "تشرشل" لينتصر.