فاز لاعب الكريكيت الدولي الباكستاني الشهير عمران خان ، أخيرا ، بالانتخابات البرلمانية في بلاده ، ليجلس على الكرسي الأول في السلطة الباكستانية ، رئيسا للوزراء ، بعد رحلة طويلة حافلة ومرهقة في التحول من النجومية الرياضية إلى العمل السياسي الجاد والمثمر على أرض الواقع وليس الاستعراض السياسي على مقاهي أزقة العاصمة . كان الشاب عمران خان قد نجح في الفوز ببطولة العالم في لعبة الكريكيت ، اللعبة الشعبية الأولى في باكستان ، ليصبح نجما شعبيا معروفا ، قبل أن يعلن اعتزاله اللعبة في العام 1992 ، ليبدأ مشواره في العمل السياسي ، حيث أسس حزبا صغيرا باسم "حركة إنصاف" عام 1996 ، كما اهتم كثيرا بالعمل الخيري والانتشار وسط البسطاء ، وأنشأ مستشفى خيريا لعلاج السرطان وسماه باسم والدته التي ماتت بالمرض العضال نفسه . وفي ظل خريطة سياسية معقدة ، ومحيط إنساني من مائتي مليون مواطن ، ومجتمع متعدد الأعراق والطوائف وتسيطر عليه نخبة سياسية قديمة محترفة وحيتان من رجال الأعمال والجنرالات في الخلفية ، فشل عمران في تجربة الانتخابات الأولى 1997 ، بعد عام واحد من تأسيس حزبه ، ولم يحصل على مقعد واحد لحزبه فيها ، وربما أصابته تلك النتيجة بشيء من الإحباط مما أوقعه في الخطأ ، الذي عادة ما يقع فيه النخبة من العالم الثالث ، بسبب قلة الخبرة وقصر النظر ، عندما أيد انقلاب الجنرال برويز مشرف على رئيس الوزراء نواز شريف 1999 ، ظنا منه أن تدخل العسكر يمكن أن يصحح المسار السياسي ويحاصر الفساد وينقذ البلاد ، وهو "الفخ" الذي يقع فيه كثيرا أبناء العالم الثالث ، ولكنه سرعان ما اكتشف خطأه ، وأن "الجنرالات" أسوأ في إدارة البلاد ممن أطاحوا بهم ، فتصدى للجنرال وخاض نضالا سياسيا طويلا ضده ، مما جعل الجنرال مشرف يقرر عزله ووضعه تحت الإقامة الجبرية ، في شبه اعتقال . وسع عمران من دائرة تواصله مع جذر المجتمع ، وبدأ يدرك أن العمل السياسي في باكستان يقتضي أن يحسن المزج بين قيم التحديث السياسي والعدالة والشفافية ودولة المؤسسات ، وبين القيم الدينية التي رسخت في ضمير الناس ، وعمران صاحب الثقافة الإنجليزية الرفيعة والذي درس الفلسفة والسياسة والاقتصاد في كلية كيبل في أكسفورد، وتخرج بالمرتبة الثانية في السياسة، والمرتبة الثالثة في الاقتصاد، كما انتظم في مدرسة القواعد الملكية في ورسيستر في إنجلترا ، وضع تلك الثقافة "الأجنبية" على جانب ، ليدرس "واقع" بلاده الذي سيناضل من خلاله ، وتركيبة مجتمعه ويحترم قواعد العمل من خلالها وأمراض مجتمعه والنخبة السياسية ، ليصل إلى التركيبة السحرية للتواصل السياسي مع المجتمع الباكستاني بكامله ، والأخذ بيده إلى النهوض والتحرر الحقيقي ، لم يشغل نفسه بالحديث عن حقوق الشواذ جنسيا ، ولا معضلة الحجاب والنقاب ، ولا ختان الإناث ، ولا أحكام الميراث ، ترك ذلك الترف الثقافي المستعلي على واقع شعبه لأصحاب المقاهي ونوادي الاسترخاء النخبوي التي تجتر ما سبق اجتراره قبل عشرات السنين ، وانشغل هو بالبناء ، والتواصل ، والعمل الجاد ، ونهضة بلده ، واستثمار قدرات الجيل الجديد تحديدا من الشباب . في الانتخابات التالية 2002 حقق أول اختراق ، لكنه كان متواضعا ، ففاز بمقعد واحد في البرلمان ، لكنه في الانتخابات التالية 2013 حقق المفاجأة وفاز بحوالي خمسة وثلاثين مقعدا ، بنسبة 17% ، ليحجز موقع ثالث أكبر حزب باكستاني في البرلمان ، بعد الحزبين التاريخيين : حزب الرابطة الإسلامية وحزب الشعب الباكستاني ، لكنه تجاوز أحزابا إسلامية وشيوعية وقومية عريقة لها عمق كبير في التجربة السياسية الباكستانية . واصل عمران جهوده الطموحة ، في مجتمع ضخم من مائتي مليون مواطن ، مثقل بتلال من الهموم الاقتصادية والإنسانية ، ولم يتخل عن "الخلطة السحرية" للتواصل الجاد والفاعل مع شعبه ، وركز على خطاب "الهوية" ، وبعكس النخبة السياسية لم يكن يتحدث في خطبه إلى بالأوردو كاملا ، بلا أي رطانة انجليزية ، رغم أنه يتقنها مثل أبنائها وأكثر ، وقال أن ملهمه هو "محمد إقبال" الشاعر الإسلامي الكبير ، كما أكد مرارا على أن مرجعيته هو القرآن الكريم وسنة النبي ، جنبا إلى جنب مع خطاب عصري ذكي عماده محاصرة الفساد وتعزيز الشفافية وإقامة دولة المؤسسات وإطلاق حرية الاقتصاد وتقليل البيروقراطية وتطهير جهاز الشرطة والعمل على استقلال القضاء ونزاهة منظومة العدالة والحفاظ على الديمقراطية والحريات العامة ، بل أكد دائما على أن هذه المقومات هي نفسها مقومات "دولة المدينة" ، مشيرا إلى أول نظام سياسي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينةالمنورة بعد الهجرة . كان عمران قد نجح في الفوز بحكم إقليم بختونخواه، مسقط رأسه ، وأقام فيه نموذجه المصغر لفكرة باكستان الجديدة ، وحقق فيه تجربة متميزة ، طبّق فيها دعواته المتكررة لمحاربة الفساد وإصلاح الأوضاع المتردية للخدمات مثل التعليم والصحة، وهو ما عزز من حضوره الجماهيري وأقنع الشباب تحديدا بجدوى التصويت لحزبه وتجربته، ولذلك تقدمت حركة إنصاف بشكل كبير في إقليم بختونخواه بالانتخابات الأخيرة، وحققت نسبا مرتفعة في الأقاليم الأخرى التي كانت معقلا للأحزاب التقليدية . في الانتخابات الأخيرة حقق عمران خان المفاجأة ، وفاز بالمركز الأول ، بل كان قريبا جدا من تحقيق الأغلبية المطلقة التي تتيح له تشكيل الحكومة منفردا ، غير أنه لم يعان في أن يستقطب بعض المقاعد القليلة التي أتاحت له الوصول إلى منصب رئيس وزراء باكستان ، وظهر عمران خان في حفل تنصيبه إلى جوار زوجته المتدينة السيدة "بشري مانيكا" ، وهي ترتدي نقابا أبيضا يخفي وجهها . عمران خان ، لاعب الكريكيت الصبور وطويل البال ، والذي عمل بصبر ودأب في حقل السياسة وليس في حقل الاستعراض السياسي ، السياسي الجديد الذي كسر هيبة الأحزاب العلمانية التقليدية التي تبادلت حكم البلاد طوال عشرات السنين ، وسحب البساط من تحت الأحزاب الدينية الباكستانية العريقة في اكتساب ثقة الشعب المتدين وكسب ثقة الفقراء بأفكاره نحو العدالة الاجتماعية بعيدا عن الحزب الشيوعي الباكستاني ، يعطي نموذجا للنخبة المصرية والعربية ، التي تمارس الاستعراض السياسي وليس السياسة ، التي ترى السياسة في سفسفطة مقاهي وسط البلد وليست في الشوارع والحواري والكفور والنجوع وجذر المجتمع ، وتتصور أن إنقاذ البلاد يبدأ بحقوق الشواذ وإعلان الحرب على الحجاب والنقاب ، وليس بالنضال من أجل وقف الفساد ووقف انتشار الفقر ، وإصلاح هياكل الاقتصاد المختلة والتأسيس لعدالة اجتماعية منصفة وحقيقية ، وإنقاذ منظومة "الإنسان" الأساسية في الصحة والتعليم والخدمات الأساسية ، وحماية كرامة المواطن بإصلاح منظومة العدالة والشرطة ، وتعزيز منظومة الديمقراطية وحق الناس في الاختيار . كان عمران مشغولا بالعمل وليس بالاستعراض ، كان مشغولا بشعبه وليس بتعاطف الإعلام الأجنبي مع نضاله الاستعراضي ضد الحجاب والنقاب وأحكام الميراث ، لذلك نجح عمران ، وفشل الآخرون . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1