رمضان ..العام.. وإرادة التغيير طبيعة الإنسان بما ركب فيه من ملكات وقدرات مادية ومعنوية أنه يعلو تارة ويهبط أخرى فهو على مستوى الفكر يعلو بالإيمان واليقين، ويهبط بالشكوك والأوهام، وعلى مستوى الممارسة والتجربة يعلو بالطاعة ويهبط بالمعصية، هذا الحراك النفسى والجسدى المتموج بين إيجاب وسلب ووعى وغيبوبة يحتاج بالطبع إلى عناية تحافظ للإنسان على إنسانيته وتستبقيه رغم الزلل والسقوط أحيانا فى دائرة العناية المركزة التى ترفع كفاءة جهاز المناعة فيه حتى لا يستمر فى التدنى والسقوط. • والنفس البشرية مُرَكّبٌ غاية فى التعقيد، وهى مستودع من الأسرار الذى لا نهاية له، ومن ثم فقد وضعها البيان القرآنى مقابل الأرض مرة بمساحتها وبطولها وعرضها وما استودع فيها من أسرار ، ومقابل الآفاق التى لا نهاية لها مرة أخرى. • قال تعالى: "وفى الأرض آيات للموقنين وفى أنفسكم أفلا تبصرون". الذاريات (2021 ). • وقوله تعالى: "سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بريك أنه على كل شىء شهيد". فصلت (53). • ووضع النفس البشرية مقابل الآفاق فى البيان القرآنى يدفع المرء إلى إعادة النظر والتأمل من جديد فى الكيان الإنسانى، فهذا الكيان له اعتبار آخر غير ما صورته به ثقافة المادة فى حضارة الغرب، حيث اضطربت رؤيتها حول الإنسان، ونظرت فقط إلى الجانب الحسى فى النفس الشرية، بينما أغفلت كل جوانب الغيب فيها، وفرقت بين إنسان الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وبين إنسان القانون والديمقراطية، فالأول مجرد مادة أو حفنة من تراب الأرض لا وزن لها ولا قيمة، بينما الثانى تمركزت حوله كل الحقوق واستجابت الديمقراطية والقانون حتى لشطحاته ورغباته وشهواته وشذوذه. • الرؤية الإسلامية كانت أوسع مدى وأعلى أفقا وتصورا وأهدى سبيلا، ليس فقط فى التعامل مع الإنسان، وإنما فى تحليل دوافعه وبواعثه ومعرفة مواطن القوة والضعف فيه، ومراكز الصعود والهبوط، والسمو والتدنى، ومتى وكيف يسمو ويعلو فوق الحياة فيشبه الملائكة، ومتى وكيف يهبط ويغوص فى الطين ويخلد إلى الأرض حين يتبع هواه، فهو من ناحية المحتوى المادى والمعنوى يشكل بتكوينه ومحتواه البصمة الإلهية التى تشهد وتشير بألف دليل على أنه خُلِقَ وفق إرادة وعناية وتدبير. • وقد روى عن أمير المؤمنين على كرم الله وجهه ورضى الله عنه أن "الصورة الإنسانية هى أكبر حجج الله على خلقه، وهى الكتاب الذى كتبه بيده، وهى الهيكل الذى بناه بحكمته، وهى مجموع صور العالمين، وهى الشاهدة على كل غائب، وهى الحجة على كل جاحد، وهى الطريق المستقيم إلى كل خير، وهى الجسر الممدود بين الجنة والنار". (عيون مسائل النفس. ص 37، حسن حسن زاده آملى) ونسب إليه أيضا قوله شعرا: دواؤك فيك وما تشعر * وداؤك منك وما تبصر وأنت الكتاب المبين الذى * بأحرفه يظهر المضمر وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر • إذًا فالإنسان فى الرؤية الإسلامية كون كبير واسع الآفاق، لكنه يضطرب ويتصادم إذا أهملت طريقة تشغيله أو فرط هو أو غيره فى القوانين الحاكمة والمنظمة لعملية صيانته ولم تراع فيه الفطرة التى تشكل أحد المحاور الهامة فى تكوينه النفسى والروحى، حينئذ يضل ويضيع، وتتحول آفاقه من مدى غير محدود وميدان فسيح لممارسة الحرية والإرادة البشرية فى نفع الإنسان وترقية الحياة إلى مجرد ترس فى آلة يغيب فيها الشعور والحس، وتهمل فيها إشراقات الروح، ويذهب جمال الفطرة ونقائه ويسيطر الضياع على فكره ورؤاه وتصوراته كلها، ومن ثم يتحول إلى مصدر للعطب وعنصر إفساد، إن لم يكن فى الكون كله فعلى الأقل فى البيئة التى يعيش فيها ويؤثر فى مساحتها. • وهذه الحالة عبر عنها فيلسوف الإسلام الكبير الشاعر الدكتور محمد إقبال حين قال: إنما الكافر حيران له الآفاق تيه ….. وأرى المؤمن كونا تاهت الأكوان فيه • ولكى يبقى الإنسان آمنا فى سربه، مطمئنا فى فكره وخواطره مشرق النفس ألاق الجبين يحتاج إلى نوع من العناية المركزة تشمل ظاهره وباطنه وسره وعلانيته ومادته وروحه، ولم يكن لهذا الدور إلا العبادات المفروضة بتنوعها وتوزيعها على الأوقات المختلفة فهى الوسيلة التى تستنقذ الإنسان من براثن الشيطان وشروره وتعيده إلى جادة الصواب ونقاء الفطرة فى وعيها الطبيعى وإدراكها لقيمة العلاقة التى لا يجب أبدا أن تنفصم بين المخلوق والخالق والمعبود والعابد مهما أخطأ العبد أو تجاوز، ومن هنا تقوم بعض العبادات بدور المنظف والمطهر للطبيعة البشرية من جراثيم الهبوط والمعصية وفقدان المناعة. • ولما كانت المعاصى متنوعة فقد تنوعت أيضا أنواع الطاعات المطهرة منها والمكفرة لها، وكان رمضان من أعجب العبادات التى فرضت على الإنسان، فممارسته تتم بشكل غيبى لا يعرفه أو يطلع عليه إلا العبد وربه فقط، وجزاؤه غيبى لا تعرفه حتى الملائكة، ومن هنا جاء فى الحديث القدسى: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به". (رواه الإمام البخارى فى صحيحه). • وكان منهج العبادة يساعد بعضه بعضا على طهارة الإنسان وبشكل مستمر، كما شرح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ،" وفى لفظ: "ما لم تغش الكبائر" رواه مسلم فى الصحيح. • وإرادة الإنسان هنا لها دور فاعل فى تصحيح المسار الإنسانى ويجب أن تحظى تلك الإرادة فى الشريعة بما يقوى عضدها ويشد من عودها ويجعلها قادرة على اتخاذ القرار الصحيح، والبيان النبوى هنا يبين لنا الفرق بين الممارسة حين تتم بشكل عفوى لا قصد فيه وبين الممارسة حين تكون من خلفها إرادة باعثة، فالصوم مثلا قد يمارسه بعض الناس كنوع من الرياضة أو كبرنامج للريجيم يتخلص به من بعض سمنته وبعض وزنه، فيكون له ما أراد بعيدا عن قضية الثواب والعقاب والامتثال والطاعة، والامتثال والطاعة هنا تقتضى أن يكون الباعث على الصوم هو إيمان المكلف بالتكليف واستقباله لهذا التكليف احتسابا من المكلف لمن كلف على سبيل الطاعة والامتثال. • الإرادة الباعثة على الفعل هنا فرقت فى النوايا بين عملين لهما من حيث الشكل نفس الصورة المادية لكن اختلاف البواعث والدوافع هنا رفع أحد العملين فجعله عبادة محضة وخالصة، لصاحبها عند ربه ومولاه جزيل الثواب والأجر، بينما تحول العمل الآخر والذى يحمل نفس الصورة كماً وكيفاً إلى عملٍ صاحبه غير مأجور. • النموذج الموضح لهذه الصورة جاء حديثا على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وقد افتتح به الإمام البخارى صحيحه واعتبره العلماء من أحاديث الأصول: عن أمير المؤمنين أبى حفص عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) رواه البخارى ومسلم فى صحيحهما. • فكأن شهر رمضان بما احتواه من عبادة الصوم يشكل للعام كله بعثا جديدا للإرادة ويقظة حية للعزم وصحوة للتصميم. • إذًا هو شهر يبنى إرادة المرء ويؤكد إنسانيته وتساميه فوق الغرائز عن طريق تدريبه على استخراج واستثمار طاقة الصبر الكامنة فى النفس البشرية، وكل هذه العوامل مجتمعة تشكل رافعة تصعد بالإنسان عقلا وقلبا، روحا وجسدا، فكرا ووجدانا، ليصل إلى مصاف الملائكة الكرام وليكون أهلا لجائزة لا يعرف مداها وقيمتها إلا معطيها، يتقبلها العبد بيمينه من الله الكريم يوم يلقاه، فينقلب إلى أهله مطمئنا بعد خوف، ومسرورا بعد حزن، ومنعما بعد شقاء وكبد ومعاناة، فطوبى لمن عرف كيف يوجه نواياه فصام إيمانا واحتسابا، والعاقبة عند ربك للمتقين. مفتى عام القارة الأسترالية Email: [email protected]