أستمع أحياناً لفريق من الخطباء والوعاظ يحثون الناس على الصبر على انقطاع الكهرباء والمياه فى الحر الشديد وتبشيرهم بأن هذا الانقطاع يضاعف من أجر الصائم، أو يحثونهم على الصبر على جور الحكام ويحدثونهم عن فضائل الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله. الصبر معنى إيجابى لكن حين يطرح فى سياقه الصحيح فلا يكون إضفاءً للشرعية على أوضاع خاطئة هى صناعة بشرية ويمكن تصحيحها بجهد بشرى، كذلك بالبحث عن أسبابها وتحديد المسئول عنها.. الصبر والرضا بقضاء الله لا يعنى السكوت على الأخطاء وانتظار الفرج من الله لأن هذا السكوت عجز وخطيئة يؤثم صاحبها ولا يثاب عليها، إنما الصبر هو طاقة روحية تعين الإنسان على تحمل المشقة، التى يلاقيها فى طريق الجهاد من أجل تغيير الواقع الخاطئ.. الصبر لا يعنى شرعنة الأوضاع القائمة وغض الطرف عن المتسبب بها - لأن هناك رباً يحاسب- بل تعنى السعى الحثيث لتغيير هذه الأوضاع.. حتى الحديث عن الجنة ونعيمها وحورها يمكن أن يطرح فى سياق سلبى حين يكون دعوةً انسحابيةً من الحياة وتعبيراً عن اليأس من تحقيق العدل والرخاء على هذه الأرض، التى استخلفنا الله فيها فيعوض الإنسان هذا اليأس بالهروب إلى عالم من الأحلام الجميلة.. السياق الصحيح للحديث عن الجنة هو أن يكون هذا الحديث مستفزاً للمؤمن لمضاعفة جهوده فى تغيير الأوضاع وتحقيق رسالة الإسلام المتمثلة فى الرحمة للعالمين وإقامة القسط والعدل بين الناس.. نفس الكلام يقال فى كثير من المواضيع الدينية مثل التوكل على الله، وطاعة أولى الأمر وغيرها من مواضيع، إن انتزعت من سياقها الصحيح شوهت معنى الدين ونزعت منه حقيقته العملية والثورية ودجنته بما يخدم أهواء السلطان.. دخل مسئول رفيع ذات مرة أحد المساجد فإذا بالخطيب ينزل من على المنبر، ويقدم هذا المسئول الرفيع ليخطب بالنيابة عنه معللاً ذلك بأن الإسلام يحثنا على احترام كبار القوم وتبجيلهم.. فعلة هذا الخطيب هى مثال على تحريف الكلم عن مواضعه واستحضار المعانى الدينية فى غير سياقها الصحيح فتتولد لدينا نسخة مشوهة من الدين، ولو فقه هذا الخطيب حقيقة الدين لعلم أن المقال المناسب فى هذا المقام هو إيصال صوت المظلومين من عامة الشعب الذين لا يستطيعون الوصول إلى المسئول، والحديث بلسانهم وتبنى مطالبهم العادلة، أما الحديث عن التبجيل والاحترام فله موضع آخر يحبذ ألا يكون المسئول حاضراً فيه تجنباً للوقوع فى النفاق.. إن استحضار السياق الصحيح للمعانى الدينية والانتباه إلى أن لكل مقام مقال ضرورى حتى لا يتحول الدين من كونه طاقةً روحيةً تنشط الروح إلى أفيون يخدر الشعوب ويشرعن الاستبداد والفساد.. إننا بحاجة إلى ثورة تجديدية فى فهم ديننا والله أعلم.. [email protected]