الشهر .. وإدارة الذات الإنسان منذ خلق وتركيبته الجسدية والعضوية واحدة حتى هذه اللحظة، فهو عبر الأجيال الزمنية والحدود الجغرافية يتمتع بوحدة بيولوجية عجيبة لا تفرق بين إنسان وإنسان، بين الفقير أو الغنى بين إنسان الشمال أو إنسان الجنوب. • وكان يفترض أن تكون الوحدة البيولوجية الدقيقة والتى استمرت عبر الأجيال دليلا واضحا على وحدة المصدر منذ الخلق الأول، غير أن الناس قد أضلت بهم شطحات العقول فى بحث بداية الخلق، فهم يتخبطون بين نظرياتٍ نسبة الخطأ فيها أضعاف أضعاف ما فيها من الصواب، والخرافة فيها أضعاف أضعافٍ ما فيها من الحقيقة، هنا يتدخل البيان الإلهى لينهى الجدل العقيم ويحمى طاقة العقل من التبدد والضياع فى متاهات التخبط والظنون بغير يقين من العلم أولا فيقول: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ} (الطور 35 36 )0 • وثانيا: بما أنه لم يعرف من البشر عاقل ادعى أنه خلق نفسه أو أنه خلق غيره، ومن ثم فإن السؤال هنا ليس له إلا إجابة العاجز ، ولذلك فالبيان الإلهى حسم القضية لصالح المنطق السوى بمقدماته الصحيحة ونتائجه الموحدة التى لا تختلف ولا حتى فى جزئياتها ليشهد العقل السليم بالتسليم للخالق الأعلى مرتين: • مرة بأنه هو الله وحده ولا شريك له، وأنه وحده المتفرد بالخلق والإيجاد. • والمرة الثانية ليشهد العقل السليم فهما وتسليما وتعبدًا بصدق البيان الإلهى بأن الكل هناك قد كان غائبا فى العدم، حيث لا أحد ولا كل هناك غير الواحد الأحد. • {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (الكهف 51) • والوحدة البيولوجية تبقى دلالة على بصمة المصدر فى الإيجاد من عَدَمٍ والإمداد من عُدْم تشهد بها الفطرة فى الذات الإنسانية لتنبئ عن قدرة الخالق فى وحدة الذات الإنسانية من حيث مصدرها الأصلى "{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (المؤمنون:12 14). • الوحدة البيولوجية هذه لا تمنع من تعدد الألوان واللغات والأجناس، وإنما تبقى شاهدة على إبداع الخالق فى التنوع والاختلاف {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}. (الروم 22 ) • وهو اختلاف يكون فى الكم ويكون فى الكيف، أى أنه اختلاف يكون فى الكم عددا بالزيادة أو النقص، ويكون فى الكيف تنوعا فى القدرات والملكات والاستعدادات التى تميز شخصًا عن آخر من البشر أو تميز مخلوقا عن آخر من المخلوقات. • والتميز والاختلاف هنا لا يكون فى أصل الجنس، وإنما يكون فى الملكات والقدرات والطاقات و عمليات استخدامها وتوظيفها، ومن ثم فهو سبحانه خالق كل شىء، وقد حمد نفسه نيابة عنا لأن العاجز الفقير لا يفى مهما أُوتى من بلاغة بحمد سيده والثناء عليه، وليعلمنا كيف يكون الحمد ويشرح لنا أيضًا كم التنوع وحجمه فى الإبداع الأعلى أرضا وسماء وما بينهما {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . (فاطر1) • الملكات المتراصة والمتنوعة والمكونة للذات الإنسانية بين عقل وقلب، وجسد وروح ورغبات وشهوات قد تسمو بالإنسان وقد تسقط به. • بين فكر يصيب فيرقى الحياة ويضيف إليها وتزدان به، أو بين فكر يشرد فيضل الحياة ويخزيها ويشقيها. • بين عاطفة تتسع بالحب فتسع الناس والأحياء، أو تضيق بالكراهية والحقد فتكره كل شىء حتى نفسها. • وحتى لا تتناقض هذه الملكات والقدرات فى أدائها ولا تتصادم فى توجهاتها ومسارها، ولكى تشكل منظومة متناسقة تعمل معا لابد لها من عملية تنظيم داخلى وخارجى أستأذن القارئ أن أسميها (إدارة الذات) • وإدارة الذات كى تنجح وتحقق الهدف لابد لها من برنامج عملى ومحدد يتضح فيه المطلوب وكيفية تنفيذه والزمن والمكان المقرر والمفضل لذلك التنفيذ، ومن ثم كانت كل عبادة ترتبط بوقت معين، كما ترتبط بعض العبادات بأماكن معينة وفى زمن معين. هذا البرنامج لا يتم إعداده وصياغته منى أو منك، فالفكر البشرى مهما سما لابد أن يحمل بالضرورة طابع الأرض لأن كل شىء فيه يخضع لقانون الزمان والمكان كما يقول المفكر الإسلامى الكبير مالك بن نبى فطابع الأرض بموجب خضوعه لقانون الزمان والمكان هو النقص والتناقض والتغيير والتحول، ومن ثم كان لابد لهذا البرنامج أن يأتى تشريعا من المصدر الذى خلق فسوى وقدر فهدى، ولكن تنفيذ وتطبيق إدارة الذات لابد أن يكون بإرادة الذات لا رغما عنها، ومن ثم كانت التكاليف الشرعية مرتبطة بحرية اختيار الإيمان والقدرة على تنفيذها، وحرية اختيار الإيمان بالطبع عملية عقلية محضة، ولذلك كان العقل شريك النص فى معرفة الحقائق ومن لا عقل له فلا تكليف عليه. • وأمام هذا العقل تعرض أنواع الهداية بأدلتها التفصيلية الشارحة ليكون اختيار المرء على علم لا يداخله ظنون وعلى يقين لا يشوبه شكوك أو غموض. • زمان العرض لأنواع الهداية بأدلتها التفصيلية كان شهر رمضان الذى أنزل فيه القرأن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. • هدى للناس فى مجال العقيدة فيطرح تصور الألوهية بما يليق بالذات الإلهية من صفات الكمال والجمال والجلال، وبكل كمال فى التنزيه بعيدًا عن ضلالات التجسيم وضبابية التشبيه، فهو سبحانه مخالف للحوادث فلا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس، وكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك، (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير )، ويسوق القرآن أدلة الوحدانية والتنزيه من أقرب وجه وبأقوى حجة وأصدق دليل، ولا يكتفى البيان الإلهى فى سوق الدليل والحجة بمخاطبة العقل وحده وإنما يحيط بالنفس من كل اتجاه ويدخل إليها من كل مدخل ويتسلل إليها من كل منفذ حتى لا يترك لها فرصة الهروب من مواجهة الحق، اللهم إلا جحودا وإنكارا لا منطق فيه، يتجاهل كل الحقائق ولا دليل له ، ولا يخضع لمعايير المنطق الموزون فى عرف العقلاء. • وبينات من الهدى فى مجال التشريع بتفصيل ما يحتاجه الناس فى حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكل شئونهم طولا وعرضا وعمقا. • طولا فى الزمان وعرضا فى المكان وعمقا فى الحاجات المتجددة لكل الأجيال. • وهو شهر يستعد له المسلم ويدخل فيه بتكليف عجيب وكأنه فى معسكر تدريب للنفس تمارس فيه سموها فوق الحاجات والغرائز وتضبط فيه سلوكها بميزان القيم الرفيعة نبلا وخلقا. • وإذا كان علماء النفس وعلى رأسهم سيجموند فرويد يعتبرون غريزة الجنس وغريزة الطعام والشراب أقوى الغرائز والدوافع تأثيرا فى السلوك الإنسانى فإن الإسلام علم أتباعه والمؤمنين به كيف يسيطرون على غرائزهم ودربهم عن طريق الصوم كيف يمتنعون وبإرادتهم المحضة عن ممارسة هاتين الغريزتين نصف اليوم شهرا كاملا حتى ترتقى إرادة المرء سيطرة وضبطا وتنظيما فيكون على غيرها أقدر. • ملكات المرء وقدراته حين لا تنتظم فى الاتجاه الصحيح تؤدى فى نهاية المطاف إلى كوارث فى شتى الميادين، ولحماية الحياة من هذا الشطط كان الصوم جنة ووقاية يمارسها المسلم باختياره الحر طاعة وامتثالا منذ البلوغ، ويستمر عليها كل الحياة فيخرج من هذا المعسكر قادرا على مواجهة الأزمات حرا فى إرادته لا ينحنى له ظهر ولا يلين له عود، ومن ثم فهو شهر مقصود العبادة فيه بجانب طاعة الخالق بناء رجولة المخلوق وتدريبه على إدارة الذات وعلينا أن نعى تلك المقاصد، كل عام وأنتم بخير. Email: [email protected]