على مدار الرقعة الواسعة من بلدان العالم الإسلامي التي تشكل محور طنجة-جاكرتا تنتشر ظاهرة "الدعاة الجدد" وأعني بها تلك الموجة المتزايدة من الدعاة الشباب الذين يجمعون حولهم جمهورا من الشباب بالأساس يخاطبونه بلغته ويفهمون عنه طريقته في الحياة ونوعية اهتماماته. وهذه الظاهرة تلبي في جوهرها احتياجا فطريا عند جموع الشباب حيث تزيد حاجاتهم إلى من يلبي أشواق التدين في نفوسهم ويوقظ الإيمان المخدر في قلوبهم، تلك القلوب التي تعيش إمّا خواءً روحيّا مشهودا تحت مطارق الضغوط المادية والنفسية التي يشكلها نمط الحياة الحديث وارتفاع معدلات العلمنة في المجتمعات العربية والإسلامية أو ازدحاما فكريّا وأيديولوجيّا تختلط معه الأمور ولا يتبين للشباب فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فشباب هذه الظاهرة هم في معظمهم شباب عاديين مقبلين على الله يخطون أول خطواتهم في طريق التوبة أو الالتزام. أولاً: من هم الدعاة الجدد؟ هم دعاة يهتمون أساسا بالأخلاق والعبادات والنواحي السلوكية، وبعض قضايا العقيدة، ومحاسبة النفس، ويبتعدون ما وجدوا إلى ذلك سبيلا عن أمرين:- أولاهما: المسائل الفقهية والشرعية العلمية حرجاً أن يقدموا أنفسهم كفقهاء في الوقت الذي ربما لا يملك معظمهم زادا علميّا راسخا من الناحية الأصولية أو الفقهية. ثانيهما: المسائل والقضايا السياسية حذراً من التضييقات التي تتسم بها عدد من بلدان العالم العربي والإسلامي؛ وفي ظل التضييق وتأميم المساجد وعدم تلبية خطباء الأوقاف والخطباء الرسميين لاحتياجات الشباب ومشاكلهم بما يقدمونه من خطاب تقليدي يصرف الشباب عن بيوت الله أكثر مما يجمعهم، فغالب هؤلاء العلماء الرسميين من خطباء الأوقاف لا تروي موعظتهم ظمأ، ولا تجيب فتاواهم على أسئلة، ولا يستقطبون نفوسا ولا يقنعون عقولا، وبالإضافة إلى عدم وجود أقنية وأوعية تستوعب أشواق التدين عند جموع الشباب فيلجأ الشباب إلى الدعوة الجدد علّهم يجدون عندهم ما لم يجدوا في بيوتهم أو قنوات الإعلام الرسمي أو في مساجد الأوقاف. ثانيا: سمات ظاهرة الدعاة الجدد أول سمات هذه الظاهرة هو تشكلها أساسا من جيل الشباب: دعاة وجمهورا ونمط علاقات وطريقة تواصل، وهو جيل المستقبل الذي تراهن عليه كافة التيارات الفكرية والحركات السياسية حتى النظم ذاتها. ثاني سمات هذه الظاهرة: أنها تنتشر أساسا في الشريحة الاجتماعية – الاقتصادية العليا، أو الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة كما أنها تنتشر فيما يسمى الأحياء الراقية، أو في النوادي الاجتماعية التي يشكل أعضائها أعضاء الطبقة الاقتصادية الأكثر غنى في مجتمعاتها، فالتدين الذي تروج له هذه الظاهرة هو تدين طبقي في معظمه حتى أطلق على هؤلاء الدعاة "دعاة الطبقة الأرستقراطية" (تشكل هذه الطبقة العليا نواة الظاهرة التي تتسع بفعل تراكم الطبقة الوسطى حولها). ثالث هذه السمات: أنها تقوم أساسا على استخدام وسائل الاتصال الحديثة من قنوات فضائية أو مواقع على شبكة المعلومات الدولية "الإنترنت". ثالثا: سمات خطاب الدعاة الجدد أهم ما يميز خطاب الدعاة الجدد أنه خطاب عام فضفاض غير محدد الملاح ولا واضح القسمات إذ هو خطاب مغرق في بساطته، يتكلم في العام وغير المحدد، يستثمر أشواق الشباب في الرغبة في التدين والبحث عن سبل نجاة في وجه مادية طاحنة إمّا أن تغرقه في ملذاتها وتلهيه في مستوى الوفرة أو تطحنه بحرمان لا يعرف له منتهى. يبدأ خطاب الدعاة الجدد بالتمترس خلف قصص السيرة النبوية وحياة الصحابة وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم والجوانب الأخلاقية السلوكية والبعد عن الجدال الفقهي والخلافات الفقهية والمسائل السياسية حتى يكتسب أرضية ومساحة للحركة ثم لا يلبث أن يطرح نفسه في الساحة كرمز من الرموز الدعوية، وهنا تبدو صناعة الرمز بأبعادها الرأسمالية وقوانين السوق وما يترتب عليها من شبكة علاقات ومصالح "بزنس" تكون الدعوة نفسها بعد الفترة من مكملات الديكور الشكلي وليست من صلب الصورة. رابعا: عوامل انتشار ظاهرة الدعاة الجدد قامت ظاهرة الدعاة الجدد على استثمار ثورة المعلومات والاتصال ببعدها التكنولوجي مثل مواقع الإنترنت – القنوات الفضائية – اسطوانات الليزر – المساجد الكبيرة التي يمثل الشباب معظم جمهورها خاصة شباب بعض الأحياء الراقية التي تمثل مناطق الوفرة. أول ما ساهم في ظاهرة انتشار الدعاة الجدد هو الخطاب البسيط - إن لم يكن السطحي- الذي لبى الرغبة في التدين عند جموع الشباب ولم يرهقهم بمصطلحات وكلمات لا يستطيعون فهمها، ولعل أهم سلبيات الصحوة الإسلامية الحديثة في أغلب بلدان العالم الإسلامي هي تحوّلها على يد الخطباء والوعاظ من صحوة علم ووعي إلى صحوة عاطفة ووجدانات. الأمر الثاني الذي ساهم في انتشار هذه الظاهرة هو القنوات الفضائيات بما تملك من حرية واسعة في جذب بعض الدعاة الجدد فالتقت مصالح الطرفين في استثمار تلك الأداة بعيدا عن الرقابة الحكومية ومع ازدياد من يملكون الأطباق اللاقطة لتلك القنوات الفضائية خلق ذلك جمهورا موازيا لجمهور التلفزيونات الرسمية للدول العربية والإسلامية، أو ما يمكن أن نطلق عليه الإعلام الموازي، وربما كان هو الإعلام الأصلي مع استمرار جمود وسائل الإعلام الحكومية وعجزها عن استيعاب شرائح واسعة من المشاهدين. الأمر الثالث الذي ساهم في انتشارها أيضا هو خلو الساحة من العلماء الحقيقيين الذين وصفهم الرسول بقوله: " يحمل هذه العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"، وبموت كثير من علماء الأمة الحقيقيين خلت الساحة وصدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا مات العلماء اتخذوا الناس رؤوسا جهّالاً فضلوا وأضلوا. فعلى مدار السنوات الماضية توفى من علماء العالم الإسلامي عدد لا يستهان به من ثقات العلماء وراسخيهم في الوقت الذي لم تخرج لنا معاهد العلم الشرعي وجامعاته من يخلف هؤلاء العلماء ويملأ فراغ ما تركوه. كما ساهم أيضا في نشر هذه الظاهرة عدم إقبال الشباب على القراءة وسيادة ثقافة السماع السريع "تيك أواي" فبعد أن كانت معارض الكتب تشهد إقبالا واسعاً من الشباب الملتجئ إلى الله وكان الكتاب الإسلامي هو أوسع الكتب مبيعا وانتشاراً مما كان يوحي بأن الصحوة الإسلامية التي شهدتها ديار العالم الإسلامي من سبعينيات القرن الماضي هي صحوة علم وفكر أكثر مما هي صحوة عاطفة وقلب خامسا: تقويم ظاهرة الدعاة الجدد لا نقصد بالقويم ذكر المثالب فقط بل إن أي تقويم دقيق للظاهرة لا يأخذ في الاعتبار مزاياها العديدة لن يكون منصفا، وأحسب أن ما نحن بحاجة إليه هو تشريح ظاهرة الدعاة الجدد بأكثر من الحكم عليها، فنحن بحاجة إلى تحليل ووعي وليس مجرد إدانة ورفض. ربما كانت أهم مزايا خطاب الدعاة الجدد انه خطاب سهل بسيط غير متكلِّف قادر على الوصول للشباب ويكلمهم بلغتهم وبالطريقة التي يفهمون بها الأمور، كما أنه اعتمد على استخدام الحكاية والإقناع وليس الأسلوب المباشر أو التغليظ، بالإضافة إلى اعتماد أسلوب الترغيب والترهيب، كما أنه قام أساساً على استخدام التقنيات الحديثة من قنوات فضائية ومواقع على الإنترنت. ويحمد لكثير من الدعاة الجدد بعدهم عن ميدان الفتوى واحترام الكثير منهم للتخصص والتفرقة بين مجال الدعوة ومجال الإفتاء. لكن أحسب أن أهم نقاط ضعف هؤلاء الدعاة الجدد أنهم – في معظمهم - لا يملكون خطاباً فكرياً متماسكاً أو متبلورا، فجل بضاعتهم إثارة عاطفة الشباب وإيقاظ الإيمان المخدر في نفوسهم في نفس الوقت الذي لا يقدم فيه أغلبهم منهجا في الفهم ولا رؤية في العمل ولا أسلوبا في الحركة قادر على إثارة وعي الشباب بأحوال أمتهم والمشاركة في معاركها التنموية أو همومها المجتمعية. ولعل من أشد سلبيات ظاهرة الدعاة الجدد هي تكسّب بعض هؤلاء الدعاة من أمر الدعوة عبر دخولهم في شبكات البزنس وقوانين السوق الرأسمالي واستثمار ما تحقق لبعضهم من شهرة، وربما هذا الذي جعل الدعوة إلى الله ميدانا لكل طامح، فكثر فيها الدَخَن والمدخول، وما كان علماء السلف يتصدرون لأمر العامة إلا وهم مستغنون عن الناس مستكملون علمياً وخلقياً لشرائط التوقيع عن رب العالمين. ولقد نقل ابن القيم في إعلام الموقعين عن الإمام أحمد، أنه قال: "لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفُتيا حتى يكون فيه خمس خصال": أولها: أن يكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. والثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه ومعرفته. والرابعة: الكفاية [أي من العيش] وإلا مضغه الناس. والخامسة: معرفة الناس. لقد كان العلماء السابقون لا يجلسون للدعوة أو للفتوى إلا بعد الشبع من الدنيا وهذا الشبع يتمثل في أمرين: الاستكمال العلمي والاستغناء المادي؛ ولم يكن أحد من الدعاة الصادقين السابقين متكسّباً من الدعوة ولا متقبلا لهدية ولا طرفاً في صفقة، ولا شريكاً في مشروع. سادسا: استشراف مستقبل الظاهرة استشراف مستقبل هذه الظاهرة لا يوحي بانتهائها سريعا إذ لكي يخرج للوجود عالم من الراسخين في العلم ثم يأخذ فرصته في الوصول إلى جماهير المسلمين ثم يلقى القبول الحسن عندهم وقد يستغرق هذا الأمر السنوات ذوات العدد، ويبدو أن الجماهير وحاجتها الروحية وأشوق الشباب لا صبر لهم على هذا الأمر، وأن الحاجة الملحة لرموز دعوية تدفع قوانين العرض والطلب بصناعتها وترويجها أيا كانت جودة العناصر المقدمة، ويظل الشباب بحاجة إلى الخلف العدول، الراسخين في العلم، المؤهلين في الدعوة، حتى لا يتركوا – أي الشباب- نهباً لأنصاف المتعلمين وأنصاف الدعاة، أو نهباً لطلاب الدنيا في مسوح الرهبان.