حين وصلت ثورة 25 يناير إلى قمتها بإجبار رئيس الجمهورية السابق على التنحى عن السلطة، كانت تملك وقتئذٍ تحقيق كل ما قامت من أجله، إذ لم يكن فى مُستطاع أى مؤسسة أو قوة أن تقول "لا" لثورة خلعت نظاماً عتيداً عنيداً، لا بدستور عبثت فيه أيدى الذين سبقوا، ولا بقوانين تم تفصيلها على هوى أهل النفوذ فى النظام المنصرم.. لقد كان زئير الثورة آنذاك أقوى وأسمع من مواء قطط اختبأت فى الجحور رُعباً من مقصلة الحساب. فى هذا التوقيت الاستراتيجى لم يكن من الصواب أبداً أن يترك الثوار الميدان تحت تأثير مُخدر الاستقرار، الذى وزعه ببراعة بعض قادة الإخوان والسلفيين على شباب الثورة ليقع الميدان فى أكبر أخطائه على الإطلاق.. بالانسحاب واستبدال الفعل الثورى بالعمل السياسى، الأمر الذى ضرب الحشد والتوحد الثورى فى مقتل، وأضاع الكثير من المطالب المشروعة للثوار، فالسياسية التى لم تحقق للشعب ما كان يصبو إليه من عيش وحرية وكرامة على مدار عقود مضت، ما كان لها أن تحقق تلك الأهداف وهى قريبة عهد بما صاغوها وأسسوها على الظلم والطغيان، لكنها نجحت أيما نجاح فى تفتيت قوى الثورة وشرذمتها والحدِّ من تأثيرها. إنَّ افتقاد الثورة لرُبَّان مُحنك يقود دفتها فى هذا الخضم منذ البداية، عرَّضها لعمليات قرصنة وسطو سياسى من قبل من أيدوها فى العلن وحاكوا لك الخطط الخبيثة فى الخفاء، تارة بتصدير المشكلات الاقتصادية والأمنية لينقلب الناس على الثورة، وتارة باستخدام التشريعات المُعطلة لسيرها، وتارة بالمواجهة القاسية مع شبابها، وللأسف لاقت كل هذه الأفاعيل تأييد واستحسان كثير ممن يسمون أنفسهم بالنخبة.. أى أنَّ الثورة قد تعرضت بعد ارتضاء العمل السياسى - من قبل الطامعين فى الكراسى - إلى عمليات استنزاف ممنهجة ومرتبة بغية إنهاك الروح الثورية فى شبابها وتبديد ما لديهم من لياقة سياسية فى معارك جانبية لا تفضى إلى شىء، والنتيجة إحباط ويأس تتسع رقعته فى النفوس، كلما مر الوقت وبقيت الثورة عند نقطة الصفر الجهنمية! إنَّ الثورة بعد أكثر من عام ونصف، وبعد دماء وشهداء ومُصابين، وبعد إنفاق المليارات على انتخابات مُنمقة، عادت إلى نقطة الصفر بالسياسة والقانون.. مجالس نيابية غير دستورية، وجمعيات تأسيسية لوضع الدستور غير قانونية، ومؤسسة للرئاسة توشك أن تلقى نفس المصير، وكله بالقانون.. أى أننا أمام مشهد إجهاض إرادة الناس وحلمهم فى التغيير باستخدام القانون.. فأى قانون هذا الذى يتعارض مع حلم مشروع لشعب ثار على الظلم والفساد، ومن المسئول عن كتابة هذا القانون، وهو يعلم أنه السكين الذى سيذبح به حلم الثورة فى الوقت الذى يشاء وبالطريقة التى يريد، وهل هذا القانون يعبر حقيقة عن المَصالح العامة، أم يعبر عن مصالح فئات محدودة تملك القوة والنفوذ والمال، ومن سيتحمل فاتورة الانتخابات الجديدة، ومن المُتحمِّل لفاتورة الانتخابات القديمة؟! إنَّ القانون حين سِيقَ بعجلة السياسة داسَ مطالب الثورة ودهسَ آمال الجماهير، فتحول القانون من أداة محايدة للذود عن الحقوق وردِّ المظالم إلى وسيلة سياسية لهدم ما تم بناؤه من مؤسسات منتخبة بإرادة حرة من شعب يبحث لنفسه عن إدارة مدنية لشئونه بعد أن جرب حكم العسكريين لمدة ستين سنة.. إذن ما هى الجريمة القانونية التى ارتكبها شعب استعمل حقه فى الاختيار؟، أم أنه ما زال قاصراً وطائشاً ليؤدب بعصا القانون المُسيس إذ قرر أن يختار؟.. أى حرية هذه؟، وأى ديمقراطية هذه؟، وأى شرعية هذه؟!!! {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (10) سورة الكهف [email protected]