ارتعبت والله لما قرأت خبر وفاته فى "المصريون"، ثم كدت (أعملها على نفسى) لما قرأت التعليقات: كان الخبر كلمات قليلة وواضحة وموجعة: (توفى الكاتب الصحفى المصرى.... رئيس تحرير.... أثناء دفاعه عن نظام بشار الأسد فى برنامج نقاط ساخنة على الهواء مباشرة على قناة.... وأفادت مصادر إعلامية بأن الجوجرى أصيب بجلطة دماغية أثناء تعصبه من طروحات ضيف آخر كان من المعارضة السورية، وتم نقله للمستشفى إلا أنه فارق الحياة). لم يفجعنى الخبر بقدر ما فجعتنى التعليقات المرعبة التى كتبها القراء القساة: إلى جهنم/ فى داهية/ يحشر معه إن شاء الله/ المرء من أحب/.... وارتعبت: ما هذه الخاتمة؟ يدعو الناس على ميت بهذه الطريقة، والناس شهود الله فى الأرض!؟ وهل يمكن أن يختم لي – والعياذ بالله – بمثل هذه الخاتمة؟ وهل نتألى على الله تعالى ألا يغفر للجوجرى أو لأى أحد لم يعلن كفره؟ هل من حق الناس هذا!؟ ياااااه.. يا وجع القلب! لقد هزتنى التعليقات لدرجة الارتعاب والإحساس بالشفقة على هذا الرجل رحمه الله، وتجسدت أمامي قيمة الآدمي الذى يُختم له بسوء، على حلمه وصبره وإمهاله سبحانه! ويرن بأذنى قوله صلى الله عليه وسلم فى تهيئة الرحمن الرحيم عبده قبل موته لعمل صالح يلقى ربه الكريم عليه، فهو احتفال واحتفاء وإكرام، وقد قال سيدى المصطفى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح: (إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عسله)، فقيل: يا رسول الله: وما عسله؟! قال: (فتح له عملاً صالحًا بين يدى موته، حتى يرضى عنه من حوله). ياااااه! يهيئ الله من الأسباب ما يجعل الناس يرضون عنه، ليَطِيب ذكرُه وينتشر فضلُه، وليثني عليه من يعرفه ومن لا يعرفه، وليجعل الناس شفعاءً له يوم القيامة، وشهودًا له فى الأرض. كثير من الصالحين خُتم لهم بسيناريوهات لافتة للأنظار، جعلتهم حديث الناس، وأجرت على الألسنة الدعاء لهم، وفى القلوب الوجع والترحم عليهم: يموت أحدهم فى الجهاد فى سبيل الله، أو تحت عجلات سيارة. يموت ساجدًا أو فى ليلة القدر. يموت مبطونًا أو برشح الجبين. يموت وهو يقرأ فى المصحف، أو فى معمعة مناظرة ينصر بها الحق، ويغضب لله الحق.. فطوبى لهم وحسن مآب. سبحان الله العظيم: عمر الفاروق، والحيي ذو النورين، وعلى أسد الله الغالب، يموتون ميتات كل منها مَثلٌ فى الشناعة والقسوة، الأول يقتله مجوسى بخنجر مسموم وهو فى صلاة الفجر، يضبط صفوف المصلين فى المسجد النبوى، والثانى يقتله السبئيون المتآمرون المارقون، وهو يقرأ فى المصحف، والثالث يغتاله أغبياء التدين من الخوارج، وأسد الله حمزة عم المصطفى صلى الله عليه وسلم يُمثَّلُ به ويُبْقَر بطنه، والراشد ابن عبد العزيز يموت فى ريعان شبابه مسمومًا على أيدى الطامعين فى الخلافة.. و.. و.. امضِ معى فى سيرة الصالحين، تجد نماذج فواحة لأناس لقوا الله تعالى وقد أكرمهم بعلامة أو أكثر من علامات حسن الخاتمة. • الفقيه الشافعى أبو الفتح نصر المقدسى يسمعه تلميذه المصيصى قبل موته بلحظات وهو يقول: يا سيدى أمهلونى، أنا مأمور وأنتم مأمورون، ثم يؤذن المؤذن لصلاة العصر، فيجلسه نصر المصيصى، ويوجهه ناحية القبلة، فيحرم بالصلاة.. الله أكبر.. ويضع يده اليمنى على اليسرى، ثم يتوفى من ساعته! • الوزير نظام الملك الذى بهر العقول جودًا وكرمًا وعدلاً وإحياء لمعالم الدين وإكراما للعلماء والصالحين، يختم الله له بالقتل ليلة جمعة، وهو ماضٍٍ فى طريقه للحج، فى شهر رمضان فيموت صائمًا، ناويًا للشعيرة، إذ أتاه باطنى فى هيئة درويش يتظاهر بأنه صاحب حاجة، ويمثل أنه يناوله ورقة، فلما همَّ بأخذها انقض عليه الخبيث فضربه بالسكين في فؤاده. ولم يزل التوفيق حليفه حتى آخر لحظة، إذ قال لمن حوله: لا تقتلوا قاتلي، قد عفوت، لا إله إلا الله، ثم تخرج روحه إلى رحمة الله تعالى، مخلفًا طيب الذكر وحسن الثناء. • والإمام العماد المقدسى الجماعيلى، يصلى المغرب بالجامع، ثم يعود ليفطر - بعد صيام - ثم يستقبل القبلة وهو يقول: يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، وينطق بالشهادتين، ثم يلقى الله تعالى مختومًا له بالخير. • والإمام المحدث ابن بقي، يصلي الجمعة منتصف رمضان المبارك، ثم يدخل داره فتفيض روحه. • والمظفر سيف الدين قطز، يرفع الله به وبغيرته الإسلامية كابوس التتار عن صدر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويطهر منهم بلاد الشام، ويأبى الله إلا أن يموت غدرًا على أيدى الطامعين فى كرسيه، وهو الذي لم يمت بأيدى التتار، فلم تفته الشهادة - فيما أرجو - فى الطريق بعد أن فاتته فى أرض المعركة. وفى زمننا سمعنا بصالحين وصالحات اختارهم الله تعالى بعد أن (عسلهم) وهيأ لهم ما يذكر الناس بهم، ويسيل الألسنة بالترحم عليهم: يموت جلال كشك وهو يناظر أحد العلمانيين العتاة وفاجأته الأزمة القلبية على الهواء مباشرة وهو يتحدث فى ال BBC ، وكذا محمد الغزالى حين أصابته أزمة.. وعبد الحميد كشك - رحمه الله تعالى - يموت ساجدًا.. و.. إبراهيم عزت يموت صائمًا فى طريقه للعمرة.. وصفوت نور الدين يصلى فى الحرم ثم يعود للفندق، ويتجه للقبلة، ويضع جنبه، ويتشهد ويموت! يا له من ختام.. ويا له من (عسل)!! وأين من هذا التوفيق والعسل الميتات الفاضحة؛ نعوذ بالله منها: ميتة من كرع من الخمر شرب البعير الهيمان حتى فاضت روحه، أو من تعاطى جرعة زائدة من المخدر حتى لم يحتمل جسمه، أو من سقط من كثرة الإجهاد بالرقص والعنف، أو من اجتالته الشياطين التى يعبدها فدفعته لأن يقتل نفسه، أو عباد الطواغيت الكثيرة التى تبرمج عابديها بالعصبية والخشونة، والجرأة على الدماء، واستسهال قتل البشر، فيموتون ملعونين بغيضين، إذ استراحت منهم البلاد والعباد. اللهم اختم لنا بالخير، واسترنا بسترك الجميل، وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين.. يا رب العالمين. [email protected]