لا أرضية للروس فى العالم العربى الآن، فحجم الكراهية ضدهم أصبح غير مسبوق بالمرة.. هذه حقيقة مهمة يعلمها قادتهم جيداً، وبالتالى يبنون سياستهم عليها.. ولعل تجربتهم التاريخية والقاسية مع العرب منذ أواخر الخمسينيات وحتى طرد الرئيس السادات لهم قبيل حرب 1973، هو الذى جعل ساستهم لا يتورعون فى التصريح خلال أحداث الثورة السورية القائمة، بأن روسيا لا تريد خلق أنظمة موالية لها فى الشرق الأوسط، كونها تحتاج لأموال كثيرة ليس فى استطاعتهم ضخها.. بل ذهب أحدهم للتصريح فى يونيه 2012 بأنهم "لن يغذوا أحداً، ولن يدربوا أحداً مجاناً، إذ إنهم فيما بعد يَتركون دباباتهم ويطردون خبراءهم من أراضيهم"، بما يلخص تلك الغصة، التى تحملها ذاكرتهم من التجربة المصرية.. وفى هذا الإطار جاءت مواقفهم مخيبة للآمال فى كل أحداث الثورات العربية، فى تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا. لدرجة جعلت البعض يتهمهم بالغباء السياسى غير المسبوق.. فقد راهنوا على كل الأنظمة الحاكمة ضد الشعوب العربية، وفى كل المواقف خسرت الأنظمة وكسبت الشعوب.. وهذا ما جعلهم يعيدون النظر فى تطوير استراتيجيتهم مع العالم العربى من جديد، ليتمكنوا من استرجاع ما فقدوه خلال السنة والنصف الماضية.. فحتماً سيشكل وجودهم فى أى دولة عربية فى المستقبل القريب معركة كبيرة ونفوراً شعبياً واسعاً بين قطاعات عريضة من تلك الشعوب، رداً على مواقفهم السابقة. ونظراً لشعور الروس بالخطأ التاريخى، الذى ارتكبوه فى حق الشعوب العربية، عقدوا فى موسكو فى أبريل 2012 مائدة مستديرة تحت عنوان، "التعاون بين روسيا والعالم العربى فى مجال الثقافة"، ناقشت الموقف السلبى الروسى من ثورات الربيع العربى، وكيف أدى هذا الموقف إلى سوء التفاهم بين الطرفين، داعيةَ للتغلب عليه بتكثيف التبادل الثقافى بين روسيا والبلاد العربية.. بل راحوا عبر وزير خارجيتهم سيرجى لافروف يعلنون فى القاهرة فى 10 مارس 2012، أن روسيا والدول العربية قد اتفقت على ضرورة وقف العنف فى سوريا، ومنع التدخل الخارجى، ودعم مهمة كوفى عنان، وإنشاء آلية مراقبة محايدة، وتقديم المساعدات الإنسانية لسوريا دون عراقيل.. غير أن تعامل الروس مع الثورة السورية وتأييدهم المستمر لنظام بشار الأسد، قد أفقدهم آخر أمل فى إمكانية قيام علاقات حسنة مع العالم العربى فى المستقبل القريب.. ومع أن المصلحة هى التى أجبرتهم على تبنى هذا الموقف، حيث جاءت التسهيلات السورية للبحرية الروسية فى ميناء طرطوس متممة لانتصاراتهم على العثمانيين فى الماضى فى التمدد للبحار الدافئة، إلا أن القيمة الاستراتيجية لهذه المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية هى التى جعلتهم يصوغون مواقفهم الدولية فيها.. فهذه القيمة ازدادت بشكل واضح بعد طرد الرئيس السادات لخبرائهم من الأراضى المصرية، فلم يعد لهم إلا سوريا ليعتمدوا عليها. ولعل الخوف الروسى من نقل العدوى الثورية العربية نحو جمهورياتهم الإسلامية السابقة، والتى تدين أغلبيتها بالإسلام السنى، هو الذى جعلهم يتحالفون مع الإسلام الشيعى والعلوى فى إيران وسوريا.. خوفاً من تحريك العامل الإسلامى فى روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى.. بل جاء تلويحهم المستمر باستخدام الفيتو ضد أى قرار لا يناسب طموحاتهم، ليجمد كثير من الجهود الأممية ضد سوريا بعد استحدامه مرتين لصالح الأسد.. وهو الأمر الذى فرض ملامح المعركة المستقبلية بين العرب والروس، فقد اعتبرت الشعوب وكثير من الساسة العرب أن الروس قد أصبحوا طرفاً مشاركاً مع نظام الأسد فى عمليات القتل التى تجرى فى سوريا. وفى هذا الإطار راحوا يدفعون المعارضة الروسية لحراك شعبى وسياسى ضد النظام الحاكم هناك. بل ويسعون لتحريض قوميات الأيجور والكاشجر والدونج شيانج والقرغيز والأزبك والكازاخ فى الانضمام للعالم الإسلامى والشعوب الناطقة بالتركية.. ومن ثم فإن انعكاس الموقف الروسى ربما سيعيد فى المستقبل القريب تجربتهم القاسية فى أفغانستان. فهناك خوف كبير من إثارة الاضطرابات فى شمال القوقاز بكامله فضلاً عن جنوبروسيا. ورغم وجود اختلافات فى الموقف العربى تجاه الثورة السورية، إلا أن غالبية الدول العربية تدعم الشعب السورى بوضوح، فى تغيير نظام الحكم وضرورة تنحى الأسد.. فهناك دعم خليجى واضح، ناهيك عن الدعم المصرى على لسان رئيسها المنتخب، والتونسى على لسان رئيسها الانتقالى، انتهاءً بقيام المغرب بطرد السفير السورى.. كل هذا لم يزد عملية الحصار العربية لنظام الأسد فقط.. بل امتد لمحاصرة الموقف الروسى نفسه.. فهناك رفض عربى واسع النطاق للروس ليس فقط لتوفيرهم الحماية الدولية، بل لقيامهم بإمداد النظام السورى بالأسلحة والعتاد العسكرى والمعلومات الاستخباراتية.. وهو الأمر الذى نشر دعوات كثيرة ضدهم تدعو منظمات المجتمع المدنى والأحزاب السياسية فى جميع البلاد العربية والإسلامية لتنظيم المظاهرات والاعتصامات المليونية للتنديد بموقفهم.. بل ونُشرت دعوات لتنظيم مقاطعات شاملة لجميع المنتجات الروسية قى البلاد الإسلامية.. وتمت المناداة بطرد الدبلوماسيين الروس منها. وذهب آخرون لمناشدة الاتحاد العالمى للعلماء المسلمين وروابط العلماء والمؤتمرات الإسلامية فى كل البلاد العربية والإسلامية، وجميع المفكرين والكتاب والمثقفين العرب والمسلمين، لتوجيه المجتمعات العربية والإسلامية نحو تنظيم حملة لإخراج الروس من بلاد العرب والمسلمين.. ولعل الانتصارات التى يحققها الجيش السورى الحر والمقاومة الشعبية الآن ضد نظام الأسد، ومواجهتها بتصريحات سيرجى لافروف المستفزة يوم الاثنين الموافق 16 يوليو 2012، بأنه من المستحيل إقناع الرئيس السورى بشار الأسد بالتنحى عن السلطة، لأن جزءاً كبيراً من السوريين يدعمه، يزيد الأمر سوءاً، ويضع الروس مستقبلاً فى أتون معركة شعبية عربية لا تنتهى ضدهم. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة