الحوار الذي أجراه الرئيس عبد الفتاح السيسي مع المخرجة ساندرا نشأت قبل عدة أيام وتم بثه أمس أثار جدلا معتادا في مصر ، واستغرق أغلب الكتابات والتعليقات في الصحف والمواقع وصفحات التواصل الاجتماعي ، حيث من المعتاد أن ينتظر أي حديث أو حوار له فريقان : فريق للتأكيد على روعة الحديث وعبقرية الأفكار وعرض الإنجازات التاريخية والتغزل في كل شيء من أول الحذاء إلى لون الكرافتة ، وفريق آخر ليلتقط كل سقطة في الحديث ويتحدث عن الأوهام التي تروج والمنطق الذي غاب والسخرية من كل شيء بما في ذلك لون البشرة التي ظهر بها في الحوار وافتراض أنها حولته من مواطن مصري قمحي اللون إلى نموذج أوربي بوجه أبيض مشرب بالحمرة ، هذا التباين والخلاف في التعليق والنظر إلى الحوار وتقييمه ، طبيعي وأصبح معتادا في التعليقات التي تصدر من الفريقين بعد أي حوار للرئيس . الحوار ، كما هو واضح ، جزء من حملة تسويق إعلامي بمناسبة الانتخابات الرئاسية الجديدة ، ومحاولة لتقديم صورة للرئيس الأب والإنسان والبسيط والمواطن العادي وصاحب الصدر المتسع للنقد والمهموم بمعاناة البسطاء والكادحين ونحو ذلك ، إضافة إلى عرض ما حققه من إنجازات خلال فترة السنوات الأربع الماضية ، غير أن المبالغة أحيانا تضعف القدرة على إقناع المخالف أو المتشكك ، مثل القسم على أنه كان حريصا على أن يترشح أمامه أكثر من مرشح ، حتى لو كانوا عشرة مرشحين ، والناس تختار بكل حرية ، وهي العبارة التي توقف عندها كثيرون كنموذج على المبالغة ، في الوقت الذي شهدت مصر فيه خلال الشهرين الأخيرين توترا بالغ الوضوح شمل أجهزة الدولة بكاملها تجاه محاولات البعض مواجهته في الانتخابات ، قبل أن تنتهي الأمور بإبعاد الجميع من السباق لسبب أو آخر ، وهو أمر يحكم عليه التاريخ . أيضا الحديث عن حرية الرأي وأن من حق المصريين التعبير عن رأيهم بكل حرية ، هو أيضا من باب المبالغات التي من الصعب استيعابها وأنت تحجب قرابة خمسمائة موقع إخباري مصري ، وهو ما لم يحدث حتى في أيام مبارك الذي قامت عليه الثورة ، بما في ذلك مواقع صحف مصرية يفترض أنها تعمل بحماية القانون والدستور المصري وبتصريح المجلس الأعلى للصحافة ، وأكثر من ذلك أن هذا الحجب يتم دون أن يعرف أحد في مصر من هي الجهة التي قامت بالحجب أساسا ، حتى نقابة الصحفيين عندما سألناها وقدمنا لها المذكرات الاحتجاجية قالت أنها لا تعرف من هي الجهة التي تقوم بحجب المواقع ، فأن يأتي الرئيس ويتكلم بأريحية عن ضمانه حق الناس في حرية التعبير ، فهو كلام خارج حدود المنطق أو العقل ، وغني عن البيان أن هذه النقطة تحديدا ، حجب المواقع الإخبارية ، هي أول تهمة يواجهها أي مسئول مصري ، بمن فيهم السيسي نفسه ، عندما يواجه الصحافة والإعلام في سفراته الخارجية ، وإن كان حوار الرئيس مع ساندرا جعل الباب "مواربا" حول تصحيح الوضع في الفترة المقبلة ، عندما قال أنه سيعالج الأمر بصورة أفضل . حديث السيسي عن الإرهاب في سيناء كان مخيبا للآمال ، عندما قال أن المستهدف هو خفض معدلات الإرهاب في سيناء ، لأن الخطاب الرسمي له ولكل قيادات الدولة كان يتحدث عن سحق الإرهاب وعن إنهاء خطر الإرهاب وعن طي صفحة الإرهاب وعن سيناء مطهرة من الإرهاب ومتوضئة من رجسه ، الآن ، بعد كل هذا الذي حدث لأهالينا في سيناء وترحيل مدينة بكاملها تقريبا وتهجير عشرات الآلاف من الأسر وتحويل حياة الناس إلى كابوس ، نقول أن الهدف هو "خفض النشاط الإرهابي" ؟ ، هذا كلام محبط جدا ، ويعطي رسالة شديدة السلبية عن المستقبل ، خاصة وأن بقاء تحدي الإرهاب يهدد معظم المشروعات التي يراهن عليها السيسي مستقبلا ، سواء في جنوبسيناء أو قناة السويس أو حركة السياحة ، ولا يمكن أن يتحقق النمو المستهدف في ظل توقع ضربات الإرهاب الإجرامية كل فترة ، خاصة وأن التجربة برهنت على أن عملية إرهابية واحدة كافية لتدمير مرفق السياحة لعام كامل ، وبالنظر إلى البقعة الصغيرة التي يتمركز فيها الإرهاب الأسود في شمال سيناء ، يصعب تخيل أن مصر بكل قدراتها لا تحقق ما حققته حتى ميليشيات صغيرة في ليبيا أو سوريا ضد إرهاب داعش . الملاحظة التي يصعب تجاهلها في هذا الحوار ، هو اختيار الرئيس للمخرجة ساندرا نشأت ، على الرغم من وجود عشرات الإعلاميين الذين يملأون الفضاء والشاشات في مصر والذين يهيمون حبا في الرئيس وتسويقا له ودعاية له ، ومع ذلك رفض الاستعانة بأي منهم ليجري معه الحوار ، وأدار لهم جميعا ظهره ، وهو أمر له دلالته بدون شك ، بل إن السيسي في الحوار صدرت منه تعبيرات تزيد الصورة وضوحا عن إدراكه أن هذه الوجوه لم تعد تحظى بالقبول على المستوى الشعبي وعموم المصريين ، أو "وجوه محروقة" بالتعبير الدارج ، وأن النظرة إليهم أصبحت سلبية ، وقد أثبت السيسي هذا الوصف السلبي فعلا ، عندما علق في حواره على الإعلام قائلا : (أندهش من قدرة بعض الاعلاميين على الظهور يوميا لعدة ساعات لمناقشة أي قضية دون مراعاة التأثير السلبي لذلك ) ، ولاحظت أن الإعلامي تامر عبد المنعم ، اعترف ضمنيا بهذا المعنى عن نفسه وعن زملائه عندما علق على اختيار ساندرا نشأت ، وكتب قائلا : (لأنها غير محسوبة علي أي تيار وفوق أي شبهات ولَم يطولها أي تلوث أو تلون) ، غير أن عبارة تامر أكثر قسوة ، عندما يشدد على أن اختيار ساندرا لأنها فوق مستوى الشبهات وغير ملوثة ، فهل تلك الصفات تغيب عن الباقين ؟!! . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1