ما زال سؤال التراجع الحضاري العربي يفرض نفسه بقوة في الساحة الثقافية و الفكرية في ظل ذلك المشهد العربي المحبط على مستويات عديدة ..وفي ظل حالة التخبط التي تسيطر على شرائح النخبة الثقافية و السياسية .. وأصبحنا في حاجة ملحة إلى مراجعة كثير من الثوابت المعرفية التي ترسخت عبر أجيال مختلفة ، كما أصبحت المقارنة بيننا وبين الحالة الأوروبية حتمية لكى يكون تشخيص (حالتنا الثقافية و العلمية) صحيحا حتى نضع العلاج المناسب لهذا التخلف المرض المزمن. لقد طال أمد ذلك التراجع الحضاري و التخلف التقني و امتد قرونا من الزمان حتى وقتنا الراهن . وإذا كانت الأجيال تتشكل وجدانيا ومعرفيا من خلال مبدأ (التراكم الثقافي) الذي تكوّن عبر عقود ..فإننا نستطيع أن نجزم بأن الجيل الحالي بما يحمله من إرث فكري هو إفراز طبيعي للجيل الذي يطلق عليه البعض (جيل الرواد) أو القرن العشرين الذي بمجرد أن يأتي ذكره .. يتوالى في الذاكرة الجمعية حشد كبير من الأسماء الكبيرة ..أحمد لطفي السيد طه حسين – قاسم أمين سلامة موسى - العقاد – الخضر حسين – مصطفى صادق الرافعي – محمد فريد وجدي- نجيب محفوظ ..و غير ذلك من الأسماء المعروفة .. فهل ذلك الجيل هو جيل الرواد حقا ؟ و إذا كان جيلا رائدا (كما يقال )فما الذي قدمه لهذه الأمة حضاريا ؟ ولماذا أصبح العالم العربي تلك البقعة المظلمة في خريطة التقدم العلمي والعالمي ؟ . ما القضايا الكبرى التي طرحها ذلك الجيل الذي أستطيع أن أحمله جزءا كبيرا من مسئولية ما نحن فيه الآن .. ولا زلنا نجتر أفكاره و نردد مقولاته دون أن نحاول أن نناقشها أو أن نبحث عن بدائل أخرى . ففي الوقت الذي كان فيه أينشتاين ينتهي من وضع نظريته الخاصة (1905) و نظريته العامة (1915) وفي الوقت الذي يفوز فيه بور بجائزة نوبل (1922)لتقديمه نظرية عن بنية الذرة .. و في الوقت الذي ترددت فيه أسماء كبرى مثل ماكس بلانك و هايزنبرج و شرودنجر و أبحاثهم في ميكانيكا الكم ... يخرج علينا طه حسين بكتاب عن الشعر الجاهلي .. و على عبد الرازق بكتاب الإسلام وأصول الحكم .. و قاسم أمين و كتابيه عن تحرير المرأة و المرأة الجديدة .. وغير ذلك من القضايا العبثية التي لم تقدم شيئا إلى الساحة العلمية سوى بث مزيد من الجدل و الانقسام الأيدلوجي و الاجتماعي .. فعانى المجتمع من عملية التآكل الذاتي .. وضاعت سنوات كثيرة دون الاستفادة من التجربة الرائدة بحق، و أعني بها تجربة محمد علي في بناء مصر الحديثة مهما انتقدها المنتقدون . لقد تسبب الفقهاء و المشايخ في العصور السابقة في صرف الأمة عن القضايا العلمية الكبرى التي طرحها أسلافنا من كبار العلماء في مجال الطب و الفلك والهندسة و الرياضيات و التي أرسوا بها قواعد المنهج العلمي و ركائز الحضارة العالمية ، ولم يكملوا تلك المسيرة الرائدة ... فانشغلوا بتلك التفاصيل و الخلافات الفقهية التي لا يمكن أن تحسم .. حتى استيقظوا على أصوات مدافع بونابرت عند قدوم الحملة الفرنسية و لم يجدوا وسيلة للدفاع عن أرضهم و أعراضهم إلا بترديد مقولة يا (خفي الألطاف ..نجنا مما نخاف) .. وهي المقولة التي أسدلت ستار نهاية مسرحية التخلف الحضاري العربي في مواجهة العلم الغربي . ولقد كنا نؤمل أن يأتي (المثقفون الجدد) بشيء مغاير للطريقة الجامدة التي اتسم بها الفقهاء .. فإذا بهم يخذلوننا كما خذلنا الفقهاء من قبل .. حتى فاجأنا نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس بتقديم تلك النماذج المشوهة جنسيا وأخلاقيا وثقافيا في روايات تحولت إلى أعمال سينمائية كان لها الدور الأبرز في تشكيل وجدان ووعي الأمة العربية ... فأصبحت الأمة رمزا لكل للتخلف على مستويات مختلفة سياسيا و أخلاقيا و حضاريا. . لقد تجاهل هؤلاء (المثقفون الرواد) سؤال اللحظة الحضارية و الموقف العلمي من الآخر إما عمدا أو لقصور في بنيتهم المعرفية ... وأصبحت الأمة أسيرة بين الفقهاء و المشايخ من جهة وبين المثقفين الجوف وقضاياهم اللغوية و الأدبية من جهة أخرى دون وجود توازن حقيقي بين كافة العلوم . إن هذا الطغيان اللغوي و الفقهي و الأدبي دون رؤية حضارية و علمية هو أحد أهم أسباب التراجع الحضاري و التقني للأمة .. وإن لم نتخلص من هذا الإرث المشوه .. فإننا سوف نواصل التقدم إلى (الوراء).