سريعاً ترجمت بريطانيا غَضَبَها من روسيا بقراراتٍ عقابيّة لاتّهامها بمحاولة قتلِ العميل الروسيّ المزدوج سيرجي سكريبال بغاز الأعصاب في قلب لندن. 3:31:16 مالغضبة البريطانية هي الأشدّ منذ 30 عاماً، أي منذ انتهاء الحرب الباردة على إثر سقوط الاتحاد السوفيتيّ عام 1991، لكنّها تعودُ سريعاً، وبوتين الذي يتوّج نفسَه قيصَراً على روسيا بلا منازع ينفخ فيها، ويسعَى جاهداً لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. فرغَ بوتين من ترتيبِ البيتِ الروسيّ الداخليّ، وبسَط سيطرَتَه المُطلقةَ على الحُكم بقبضةٍ من حديد لا تقلّ عن قبضة ستالين باستثناءِ أنّه لا يرتكب مجازرَ بحقّ الروس، لكنه مستعدٌّ لارتكابها في الجمهوريات التابعة لروسيا، والتي يَفرِضُ عليهَا وصايتَه، مثل الشيشان التي ابتدأ عهدَه بسَحْقِها، وتنفيذ سياسة الأرض المحروقة فيها، وتسوية عاصمتها جروزني بالأرض، في رسالة معنونة بالقوة والغطرسة إلى الجمهوريات الأخرى بألا يتمرّدَ أحدٌ منها، وألا يُفكّرَ في الاستقلال، إنما يَرضَى بما يمنحه لها، وهو مجرد حكمٍ ذاتيّ شكليّ، وبعيداً عن بلاده يرتكبُ مجازرَ في حقّ شعوبٍ أخرى، مثل سوريا التي يتجاوز مسألة الوصاية عليها إلى الاحتلال المباشر واللجوء للقوة المتوحشة لإخضاع شعبها وقوى المعارضة الذين يتشوقون للحرية والكرامة والانعتاق من سجن الحاكم الطاغية. لم يحارب بوتين الإرهابَ في سوريا بقدرِ ما يحارب فصائل المعارضة المعترف بها دولياً، ولا يقتل من الإرهابيين بقدر ما يُسقط من السوريين شهداء وجَرحَى ويُشرّد الملايين منهم ويدمّر بلادَهم ومساكنَهم وحياتَهم، وفصول المجزرة التي يدعم بها حليفَه تتوالى من منطقةٍ لأخرى، وتصل إلى محطة الغوطة الشرقية لتقتلعَ المنطقةَ من جذورِها فوقَ رؤوسِ سكانها المحاصَرين، بينما العالمُ عاجزٌ عن فعل شيء حقيقيّ لهؤلاء المستباحة دماؤهم، ولا أحد يغضب لهم ومأساتهم لا مثيل لها، وهم ليسوا شخصاً واحداً مثل الجاسوس، إنما هم بالملايين. هذا العالَمُ فاقدٌ للقيمِ والأخلاقِ والإنسانيةِ والضمير، أما القوانين الدولية والمواثيق الحقوقية والأحاديث عن الكرامة الإنسانية فهي شعاراتٌ كاذبةٌ للتجارةِ والنفاقِ فقط، ويتساوَى في هدر كلِّ هذه المعاني الروسي الدموي مع البريطاني والفرنسي والأمريكي وكل قوى العالم الكبرى التي باستطاعتها التحرك وإنقاذ المدنيين لكنّها تتخاذل أو تتواطأ جميعها. بريطانيا تقومُ بتأديبِ روسيا لأنها طعنتها في كرامتها الوطنية، وروسيا تردّ لأنها لا ترضَى لنفسِها الإهانة، وأمريكا تعاقب موسكو أيضاً على تدخلها في الانتخابات الرئاسيّة ومحاولة التأثير فيها وروسيا لا تسكت فتتعامل مع واشنطن بالمثل، وهكذا عالم الكبار لا يتحمّلون أن يمس بلد منهم الآخر، بينما كلهم يتعامَلون معنا عرباً ومسلمينَ كأننا حقول تجارب لهم، يتدخلون في شؤوننا، ويستبيحونَ أراضينا ودماءنا، وينهبون أموالنا وثرواتنا، لا فرق في سياساتهم العدوانية الانتهازية بين استعمار قديم وجديد. ما كان يمكنهم ارتكاب مختلف الجرائم في بلادنا وشعوبنا لو كانت الأنظمة الحاكمة تُقِيمُ وزناً لمواطنيها وسيادتها وكرامتها الوطنية كما فعلت بريطانيا لأجل جاسوس، ولحماية مواطنيها وأمنها القومي، هذه خطوط حمراء غير مسموح بتجاوزها أو العبث فيها حتى ولو من دولة كبرى، عندنا لا خطوط حمراء، الروسي يقتل ويحتلّ ويقيم القواعدَ بترحيبٍ ودعمٍ من حاكم مفترض، والأمريكي يتصرف كما يشاء دونَ أن يراجعه أحدٌ في منطقة يعتبرها شبه مغلقة عليه، وكذلك الآخرون لهم مواطئ أقدام بقدر أوزانهم وقوتهم الدولية. هل يمكن للعرب أن يتخذوا يوماً قراراً عِقابياً ضد من أخطأ في حقهم أو حق بلد منهم كما تتضامن فرنسا وألمانيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي والناتو مع بريطانيا ضد روسيا؟، هذا مستبعدٌ في هذه المرحلة التي يتعرض فيها البناء العربي للانهيار من الداخل، ففي قضية القدس مثلاً التي يُفترض أن تكون مجالَ إجماعٍ لم يتجاوز الموقف العربي التنديد المعتاد، بينما المدينة المقدسة يجري تهويدها ومصادرتها بالكامل أمريكياً وإسرائيلياً، وإخراجها من المفاوضات، هناك قرار قديم لقمة عربية بمقاطعة شاملة لمن يعترف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، فلماذا لا يتم تفعيل هذا القرار المفترض أنه مُلزم، وتكون البداية بأمريكا التي انتهكت القانون الدولي بقرار الاعتراف بها ونقل سفارتها إليها؟. الأسَدُ البريطانيُّ الجريح ردَّ الصفعةَ بأخرَى أعنَف، فَمَتَى - على الأقل - يمنع العرب أن يصفعهم أحد؟. [email protected]