توفي هذا الأسبوع العالم البريطاني الكبير "ستيفن هوكينج" أستاذ الفيزياء وعلوم الفلك ، وصاحب نظريات علمية مهمة ، وهو شخصية ملهمة بالفعل على الصعيد الإنساني ، حيث أنه أصيب بالشلل التام في شبابه ، ومع ذلك قضى بقية عمره يكافح من أجل العلم ولا ييأس ويتأمل ويشارك حتى في النشاطات الإنسانية والحقوقية العالمية ، ومن ذلك مشاركاته في مظاهرات ضد "إسرائيل" وانتصارا لحقوق الفلسطينيين ، وغير ذلك ، وهذا إصرار إنساني عجيب يتحدى الإعاقة التامة ، كما يصر على أن تبقى له رسالة إنسانية ما بقي فيه نفس أو عرق ينبض . اهتم العالم كله تقريبا بوفاة "هوكينج" ، وكتبت المقالات والتعليقات في الصحف والمواقع الإخبارية وصفحات التواصل الاجتماعي في تأبينه ، وكلهم كان يهتم أساسا بإنجازه العلمي وسيرته الإنسانية ونضاله من أجل حقوق الإنسان ودفاعه عن المظلومين والمستضعفين ، إلا في العالم العربي ، حيث أخذ الحديث عنه مسارا آخر بالغ الغرابة ، حيث فجر بعضهم قضية أنه كان "ملحدا" لا يؤمن بالأديان ، وهذا صحيح لأن له عبارات ومقولات توضح ذلك ، لكنه لم يكن مهتما بتسويق هذا الكلام ولا نشره ولا الدفاع عنه ، كان يمر عليه مرورا عابرا إذا سئل ، فلم تكن تلك قضيته ، لكن بعض "الخبثاء" أرادوا أن ينصبوا فخا للعقل العربي ، على طريقة ما يفعله مصارعو الثيران في الحلقات الإسبانية الشهيرة ، حيث يتم التلويح للثور بالراية الحمراء فيهيج ثم يندفع إلى الراية الحمراء ينطحها ، وهو غير مدرك أن مشكلته في من يمسك الراية وليس في الراية نفسها ، الأمر الذي يسهل للصياد طعنه مرة ومرات حتى يتفاقم نزيفه ويسقط من فرط الإجهاد والنزيف . فور أن رمى بعضهم "بطعم" أنه ملحد ، حتى بدأ الجدل حول مصيره ، هل هو إلى الجنة أم إلى النار ، وهل تقبل أعماله الصالحه وعطاؤه الإنساني ودفاعه عن المظلومين أم لا يقبل ، وهل يجوز أن نترحم عليه أو نرجو من الله له الرحمة أم لا ، وبطبيعة الحال انقسم المتحدثون المتحمسون للغاية في العالم العربي حول القضية ، الأكثرية قالت أنه كافر لا يرد على جنة أصلا ، وأن مصيره إلى النار ، وآخرون قالوا أنه قدم للإنسانية عطاء أفضل ألف مرة من مجرمين يقولون أنهم متدينون لكنهم سفكوا دماء الناس ظلما وسحقوا البلاد والعباد وأذلوا الخلائق ونشروا الظلم والقتل واللصوصية ، فكيف يكونوا في الجنة وهذا الشخص في النار ؟ . النتيجة المباشرة من هذا الجدل الذي انتشر انتشار النار في الهشيم طوال الأيام الماضية ، وانتفخت فيه أوداج وتحمس متحمسون وتراشق متراشقون واتهم المتهمون مخالفيهم بالعبث بالعقيدة والاستهتار بالدين ، وغير ذلك من نيران مستعرة في الجدل وحماسة مفرطة ومثيرة للشفقة ، النتيجة هي تشويه واسع لصورة المتدينين والإسلاميين وأنهم غلاظ القلوب وقصيروا النظر ومتشددون ومعزولون عن الإنسانية ولا يحملون الخير للبشرية .. إلى آخر قائمة الاتهامات التقليدية التي تطرح في مثل هذه "الحلبة" مع كل مباراة يتم اصطيادهم فيها . مهم أن يدرك الناس معاركهم الحقيقية ، ويفهموا أين الخطر على دينهم أو دنياهم ، وما هي الأولويات التي تستوجب وتستحق أن تستنزف طاقاتهم ، كما أن من المهم أن يدرك المتدينون والإسلاميون أهمية حماية صورة دينهم وتدينهم أمام الناس من التشويه والمتاجرة بهذا التشويه ، ولهم في رسول الله أسوة حسنة ، عندما طالبه بعض أصحابه بقتل المنافقين الذين يعرفهم ، فرفض وقال : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ، فهو لم ينكر عدالة قضيتهم ، ولكن لفتهم إلى توابعها من تشويه صورة دينهم ونبيهم أمام الناس وأن مصلحة ذلك تقتضي الانصراف عن هذا الفعل . لن يقدم ولا يؤخر رأيك في أن "هوكينج" في الجنة أو في النار ، وليست رسالتك أن تمشي بين الناس لتشير إلى أن هذا في النار وهذا في الجنة ، أنت رحمة للناس وليس قاضيا على مصيرهم وضمائرهم ، مسئولتك تتوقف عند نشر قواعد دينك وأصوله وهدي نبيك ، وليس الانشغال بالفرز الفردي وتوزيع صكوك الجنة والنار على الخلق ، كما أنك لم تطلع على قلبه وضميره في أيامه الأخيرة لتعلم ما آل إليه وما استقر في معتقده ، فهذا سر بينه وبين خالقه ، ولسنا أوصياء على أحد ولا نتألى على الله ، وكان لطيفا لو قال أحدهم : نرجو أن يكون الله قد ختم له بخير ، والرجل لم يكن حربا على الله ورسوله ودينه ، بل كان نصيرا للمسلمين المستضعفين وتحدى من أجلهم قوى كبرى ذات نفوذ وغطرسة ، هذا ما يهمنا من أمره ، كما يهمنا ما يقدمه من علم نافع للبشرية يساعد على تطويرها وتقدمها ، وليختر لنفسه بعدها أن يذهب إلى الجنة أو النار ، فهذا مصيره هو ، وقضيته هو ، واختياره هو ، ومسئوليته هو ، وفي التنزيل الحكيم "وكلكم آتيه يوم القيامة فردا" . لقد خسر المتدينون والإسلاميون كثيرا في تلك المعركة العابثة والوهمية ، وتم اصطيادهم وتشويههم هذه المرة بسهولة كما اصطادوهم من قبل في معارك يتم افتعالها بخبث شديد ، واستنزفوا قدرا غير قليل من سمعتهم ومن جهدهم ، ولو أنهم وفروها لمعاركهم الحقيقية في الدنيا ، لإقامة العدل ونصرة المستضعفين وتعزيز الحريات العامة ونشر الخير في العالمين ووقف نزيف الفساد ، لكان أفضل لهم وأقوم .