أدخل مباشرة في الموضوع وبدون مقدمات ولا تمهيد لأؤكد أن جوهر العمل السياسي الناضج والمتميز هو قدرته على إحداث التوازن بين مكونات الوجود السياسي سواء أكانت أحزاب أو جماعات مصالح أو توجهات عرقية أو جهوية أو تكوينات لرجال أعمال. ومن ثم فإن العمل السياسي الجيد هو ذلك العمل القادر على إحداث التوازن بين كل تلك المنظومات الاجتماعية والسياسية التي تعمل في التحليل الأخير لصالح ما تمثله سواء أكان فكرا أو أشخاصا أو جهات نافذة. وعلى مدار السنوات القليلة الماضية تعرضت الدولة المصرية لمحاولتين اختطاف وإدارتها لصالح الأهل والعشيرة من قبل التنظيمين المنضبطين أو المكونين الأشد انضباطا تنظيميا في الساحة المصرية منذ عقود طويلة. وفي حين فشلت المحاولة الأولى لا لقوة خصومها ولا لسيطرتهم بل جراء أخطاء وكوارث سياسية وقعت فيها ليس أقلها تعجل الثمار قبل بدو صلاحها، واتباعها لأفكار وسياسات فجة وغير ناضجة ولا منهجية تقوم على محاولة حرق المراحل التي دائما ما تعود بنتائج سلبية على أصحابها. أما المحاولة الثانية فلا زلنا نعيش أصداء ثمارها المرّة وستدفع الأجيال القادمة أثمان باهظة لما فعلته تلك المحاولة من مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية ليس أقلها ديون وقروض وفوائد ديون تم تكبيل الدولة المصرية بها ولا تملك منها فكاكا، وليس أقلها التورط في شبكات علاقات خارجية (دولية وإقليمية) غير مكافئة وغير عادلة بعضها ثمن لشراء الشرعية، وبعضها ثمن لشراء الدعم والمساندة المالية، مما خلق حالة من حالات استهواء الدولة المصرية أو سلبها دورها الدولي والإقليمي بل وجعلها ألعوبة لصغار الدول قبل كبارها. والبكاء على اللبن المسكوب لن يحل الأزمات الاجتماعية ولا الأزمات السياسية، الدولة المصرية تعيش حالة من حالات الاستقطاب الاجتماعي والسياسي الحاد لم تشهدها في تاريخها فيما نعلم من وقائع التاريخ المصري. والمعارك الصفرية وتصور إفناء الخصوم وإخراجهم من معادلة الوجود السياسي أفكار صبيانية عفى عليها الزمن لا تصلح لا لإدارة الدولة ولا لقيادة المعارضة. وأنصاف الحلول والالتقاء في منتصف الطريق والتنازلات المتبادلة هي أنسب المقاربات لمن كان في مثل حالتنا الاجتماعية والسياسية، وهو ما علمتنا إياه تجارب دول ومجتمعات شهدت انقسامات عرقية وصراعات فئوية أو جهوية أو حتى حروب أهلية. الدولة المصرية في حالتها الراهنة هي دولة مكبلة بنخبة ومؤسسة تحافظ على مكاسبها أو ما اقتنصته من مكاسب في لحظة تاريخية معينة، وليس من السهولة أن تتنازل تلك النخبة ومؤسستها الحاكمة عن مكاسبها فمن يفتح باب "التغيير" دون كسره، ودون هدم الجدار؟ تلك هي المشكلة. الحلول المثالية والأفكار المثالية ليس مكانها العالم السياسي ولا العمل السياسي، قد تدون في الكتب أو تكتنز في نماذج ثقافية أو إنسانية تعبر عن نقائها من خلالها أما الإبحار بسفينة المجتمع وقيادة دفة الدولة فمكانها فن الممكن أقصى الممكن، والتفكير بحدود المتاح والمسموح في وسط بيئة إقليمية ودولية مواتية للصراع وإزكاء عوامله ودول تنفق من خزائنها لإغراق محيطها الإقليمي في وهدة أزمات وحروب أهلية لا تقوم لها بعدها قائمة. وفي أجواء التغيير لا تفكر الجماعات السياسية الناضجة بتحقيق أقصى مطالبها أو كل ما تحلم به بل تعمل على سياسات الحد الأدنى من المطالب، ذلك الحد الذي يسمح باستمرار الوجود ذاته وتعميقه وتنمية جوانب العافية فيه ومواجهة ما يعترضه من عوامل النحر والتعرية. والعمل السياسي الناضج ليس هو نظام "اضرب واهرب" أو "اخطف واجري" إنما هو نمط من السياسات التي تعمل على تراكم المكاسب وإنجاز خطوات صحيحة ولكن في الاتجاه المقصود حتى وإن كانت تلك الخطوات بطيئة أو قليلة العدد، لكنها هي الخطوات التي تقرب من تحقيق الهدف، فدقة تحديد اتجاه البوصلة خير من سرعة المسير ومقدمة عليه. وفي حالات الاختلال الاجتماعي والسياسي الحاد يكون إحداث التوازن هو الهدف الأسمى من كل عمل سياسي، فالتفرد والواحدية في إدارة الدول منذر بالكوارث وهو ما تعيشه الدولة المصرية حقيقة لا توقعا، وكل خطوة من شأنها إحداث هذا التوازن هي عمل سياسي متميز تحرص عليه الجماعات والأحزاب الناضجة، إذ هي أم الولد الحقيقية، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.