لا شك أن إعلان الفريق أول سامي عنان ترشحه لانتخابات الرئاسة المقبلة أحدث ضجيجا كبيرا في مصر وحتى خارجها ، ولاحظت أن النقاش انتقل من مصر لعواصم عربية أخرى ، وخاصة في الخليج العربي ، وبدأ الإعلام الدولي يتحدث عن "انتخابات" في مصر ، بعد أن كان الأمر أقرب لنكتة أو مزحة بسبب توازنات القوى المنعدمة الآن في الساحة المصرية ، كما أن هناك حالة من الانتشاء الواضحة في وسائل التواصل الاجتماعي صاحبة النفوذ الطاغي على الطبقة الوسطى بشكل خاص ، حتى أولئك الذين قابلوا إعلان "عنان" بتحفظ أو حتى بسخرية ، تشم من كلماتهم رائحة الانتشاء كمن أخذ نفسا عميقا ملأ به صدره وكأنه يتنفس من جديد أو يتنفس الصعداء كما يقول العرب . هذا الضجيج يأتي من جانبين في تقديري ، الأول هو ثقل الفريق عنان كمرشح رئاسي قوي ، إذا لم تعانده أجهزة الدولة ومؤسساتها الصلبة ، فهو في طريقه ليكون رئيسا لمصر في الفترة المقبلة بدون شك ، لأنه شخصية مسئولة ، ونجحت مع المشير طنطاوي في إدارة شئون الدولة عقب ثورة يناير ، بأقل الخسائر ، وكان أمينا في تسليم السلطة لأول رئيس مدني منتخب ، كما أنه قائد عسكري ينتمي إلى أبطال أكتوبر ، النصر الوحيد الذي تحقق للعسكرية المصرية في مواجهاتها مع "إسرائيل" ، وانتماؤه للمؤسسة العسكرية يفكك حواجز كثيرة لها حساسيتها مع المؤسسة ، فهو مرشح من داخلها في الحقيقة وليس من خارجها ، وهو قائد عسكري لا يقبل أن يلعب دور "المحلل" لأي شخصية أخرى أيا كانت ، وهو ما يمنحه الثقة لدى كل معارضي الرئيس الحالي ، بالإضافة إلى نقطة مهمة للغاية ، وهو أنه ليس طرفا في كل ما جرى منذ 3 يوليه 2013 وحتى الآن ، وهو الميراث النكد الذي تعاني مصر من تبعاته حتى اليوم ، من دماء مهدرة وعشرات الآلاف من المعتقلين ومئات أحكام الإعدام ونشر الخوف على نطاق واسع لكل من يشتغل بالسياسة أو الشأن العام خارج دوائر الأنظمة وتوسع مخيف في أعمال الإرهاب وتدني خطير في مستويات المعيشة للمواطنين وتعرض البلاد لخطر مروع في مصادر النيل ، روح مصر وحياتها . الجانب الآخر الذي سبب هذا الضجيج ، هو أن ما حدث في مصر ويحدث حتى الآن منذ 3 يوليو 2013 هو حزمة أزمات مترابطة ترابطا سببيا ، لا يمكن التعامل معها كأجزاء للحل ، إما أن تكون هناك رؤية شاملة متكاملة للحل ، وإما الفشل المحقق ، فأنت لا يمكنك أن تعيد القوة والهيبة للدولة ومؤسسة الرئاسة وتبعدها عن الابتزاز المهدد لمصالح الوطن دوليا وإقليميا وداخليا ، بدون أن تحسم مسألة الشرعية بصورة مقنعة تماما للخارج والداخل ، ولا يمكنك حسم مسألة الشرعية بدون أن تنهي ملف الانقسام الوطني الواسع في الداخل وتمزق الشعب على خلفية ما جرى بعد يوليو 2013 ، ولا يمكنك أن تنهي الانقسام بدون تفكيك الملفات القضائية والأمنية التي ورثت مظلوميات هائلة خلفت مرارات وأحقادا في نفوس مئات الآلاف من الأسر ومعها ملايين المتضامنين ، وأنت لا يمكنك أن تحقق هذه الغاية إلا بعملية إصلاح واسع لمؤسسة العدالة وللجهاز الأمني معها ، وأنت لا يمكنك أن تنهي خطر الإرهاب إلا بتفكيك أفكاره ونزع مبرراته النفسية والسياسية ، فيتآكل حتى بدون سلاح ، ويسهل اختراقه وإنهاؤه ، ولكن هذا لا يمكن أن يحدث بدون إصلاح سياسي وفتح نوافذ للحرية والتنوع والتعددية السياسية التي تستوعب تيارات الفكر والسياسة وبدون أن يكون هناك إعلام حر ينفس عن الجميع ويشعر الجميع بالرضى والقدرة عن التعبير عن أفكارهم ومظالمهم بدون خوف أو قهر ، والإصلاح الاقتصادي لا يمكنك القيام به بشكل جاد وعلى المدى الطويل بدون شراكة شعبية حقيقية وتوحد الوطن خلف قيادة يثق بها ، وفتح الآفاق أمام رأس المال الوطني ، وترسيخ دولة القانون وثبات القوانين وسلامة عملية التشريع وحصانة المال العام والخاص وتأمينه ، وتعزيز سلطة القضاء المستقل ، وتعزيز سلطة مؤسسات الدولة الرقابية واستقلالها ، وهذا كله لن ينجح إلا بوجود برلمان قوي ومقنع ومعبر بصدق وشفافية عن قوى الشعب وتياراته وإرادة الناس وقادر على رسم خريطة الوطن التشريعية بأمانة ومسئولية واعتدال ، وهذا يستدعي أن تكون هناك انتخابات برلمانية حقيقية شفافة ، ودع عنك عملية الإصلاح في مؤسسات التعليم ، وخاصة المؤسسات الجامعية وإعادة الروح إليها باستقلالها إداريا وماليا ودعمها بالكفاءات المنتخبة من بين كوادرها وليس من جانب ضباط الأمن ، وتعزيز البحث العلمي الذي يوفر على الدولة مليارات الدولارات ويستثمر ما لدى مصر من عقول نيرة وكفاءات رفيعة تتوهج في الخارج وتنطفئ في الداخل . ما تعانيه مصر هو حزمة من المشكلات والأزمات المترابطة ، يستحيل أن تنجح في حلها أو مواجهتها قطعة قطعة ، أو جزءا جزءا ، وإنما الوطن بحاجة إلى مشروع كامل ، يمتلك الجرأة والشجاعة ، ويتخفف من إرث الماضي القريب ، ويملك القدرة على تحريك مؤسسات الدولة وأجهزتها في وجهة الحل الشامل بكل تضحياته ، وهذا الأمر بأمانة لم يوفق في تحقيقه الرئيس عبد الفتاح السيسي ، وربما أصبح غير مؤهل لإنجازه مستقبلا حتى لو أراد ، لأنه جزء من تلك الأزمات ، ومن كان جزءا من أزمة يصعب أن يكون جزءا من الحل ، فضلا عن أن يكون قائد الحل ، ولعله لذلك السبب كان الضجيج الذي أحدثه إعلان الفريق سامي عنان ترشحه ، لأن كثيرين رأوا فيه قائدا غير مثقل بالماضي وليس جزءا من أزماته ، وبالتالي فهو قادر على معالجة هذه "الحزمة" من المشكلات ، والحقيقة أن كلمته التي أعلن فيها ترشحه جاءت تحمل بصمات تلك الرؤية "الشاملة" لحزمة الأزمات التي تواجهها مصر ، وهو ما قوبل بارتياح واسع . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1