ويا شمس طلى على العلم.. تحت العلم أبطال ..ضحوا بحياتهم فداكى .. وضربوا أروع الأمثال..الدنيا صحيت وقالت: مصر فيها رجال.. فحيوا معى هذا العلم ..علم الجيل والأجيال!! هل كان الفتى مصطفى العقاد ذو الثمانية عشر ربيعًا يعلم أن نشيد الصباح وتحية العلم التى ترج جدران مدرسته الأميرية الثانوية الصناعية بحى المطرية سوف يترد بحماس أكثر وحمية أروع فى طابور الصباح المعتاد غير أنه لن يكون موجودًا بجسده بل بروحه الطاهرة ترفرف فى أنحاء المكان، وصورته الموضوعة تحت سارية العلم المرفرف فى فضاء المدرسة .. ليصبح رمزًا لجيله وعنوانًا للفداء والتضحية من أجل عيون مصر! مصطفى لم يكن يشغل باله بأكثر من محيط أسرته أمه حبيبته وأبوه الرجل الذى تجاوز الخمسين بقليل، ورزقه يأتيه بعد عناء يوم بيوم، وأخوه الأكبر لا يزال حزينًا يتجرع مرارة الفراق. هل كان مصطفى يشعرأن يوم الجمعة الموافق الثامن والعشرين من فبراير هو يوم عرسه الذى لم يتجهز له، استيقظ مصطفى يوم جمعة الغضب قبل أن تستيقظ شموس الكون.. وقبل طلوع الشمس لينادى الأب كعادته: جهزوا الشاى يا أولاد!! ويجهز الأولاد الشاى فى بيتهم البسيط المملوء ويلتفون حول الطبلية عليها صينية الشاى، والتلفاز لم يهدأ.. لا يزال يبث أخبار الثورة من ميدان التحرير مباشرة وجميع ميادين مصر المحروسة، ومصطفى الذى يمتلك قلبًا كقلوب الطير رقة وعطفًا وحنانًا يتألم عندما يشاهد عبر الشاشة دماء الشهداء ويهمس لأبيه بصوته المختنق: "الناس بتموت يا با واحنا قاعدين هنا؟" لم يرد أبوه على تعليق فلذة كبده، بل تجرع مرارة الحزن وقال له وهو يرسم ابتسامة مغتصبة: "م تقوم تجيب لنا عيش" حمل مصطفى قلبه الحزين واتجه إلى الخارج وصوته لا يزال فى أذن أبيه.. " سأذهب إلى عماتى وأعمامى لأسلم عليهم فقد وحشونى .. وكان هذا على غير عادته.. وذهب إليهم وكان سلامه الأخير لهم هو الوداع الأخير! " سيدة حسن عبد الرءوف".. امرأة ستينية هى أمه التى لا يزال الحزن يعتصر قلبها ولا تزال دموعها جارية، لم تنسّ هيأته ولا جماله وكلما تذكرت ليلته الأخيرة فى الحياة والتى قضاها فى أحضانها بعد أن عجزوا فى إيجاد من ينقذه، نعم لم يجدوا من يوقف الدماء التى سببتها رصاصات الغدر الفاشية التى قضت على أحلامه وأحلامها وأحلام أبيه المسكين.. الليل طويل، وأنفاس مصطفى تعلوا وتهبط.. وهى تنظر إليه وقلبها يتمزق.. قال الأطباء لأبيه خذه معك ليموت بينكم.. لكن الأب المسكين كبت مشاعر ألمه فى صدره ولم يذكر شيئًا من ذلك للأم الملتاعة وتركها تسبح فى الآمال .. آمال أن يعيش ابنها وتراه ثانية وهو يشاغبها ويناديها مثلما كان يفعل ضاحكا! أبوه بالرغم من مرور أكثر من عام ونصف العام لا يزال زائغ العينين مصفر الوجه لا يستطيع حلاقة ذقنه من شدة الحزن.. يحدث نفسه، يلومها، ولسان حاله يؤنبه متسائلا فى عنف: كيف تركته يمضى؟ كيف تركته يمر؟ كيف تركه دون أن يعانقه رجلا لرجل؟! خالد.. لم يكن مجرد أخ لمصطفى.. لقد كان أخوه الأكبر وصديقه.. يتحابان كرجلين ويفكران كصديقين .. بينهما مستودع عميق من الأسرار، وصفه لى خالد وهو يغالب دموعه .. فوجدت صورة لفتى غض نقى كأنما كان يرى نهايته شهيدًا فذهب إليها بقدميه مؤمنًا غير متكاسل ولا متراجع! كان مصطفى يحب الشعر .. وهالتنى آخر كلمات طالعتها فى "أجندته" التى كان يسجل فيها مايكتب.. كلمات كتبها بخط يده أم بمداد قلبه؟ قصيدة طويلة بعنوان: "آخر الدنيا" من كلماتها.. " موتك.. كان يوم عيدك وسعدك.. كان يوم م شفتك" ترى ما الذى كان يقصده مصطفى بهذه الكلمات؟ لا أدرى.. ربما كان يكتب شهادته فى الحياة قبل أن يذهب إلى هناك.. إلى عالم البراح والصدق والحقيقة!