البداية: مَن منا لا يحلم بأن يعيش على النيل؟، فكل شخص يحلم بأن يمتلك فيلا أو شقة تطل على النيل، ولكن لن يفكر أحد مطلقًا أن يسكن داخل نهر النيل، ولا ننسى أن كل مَن تضيق نفسُه أو يشعر بغربة يذهب إلى النيل، ويجلس هناك وينظر لمياهه الزرقاء، وصفائه الذى لا يوصف، فيشعر على الفور براحة نفسية وأمان واستقرار، ثم يعود إلى منزله بعد قضاء ساعات هناك، ولكنه لن يستطيع أيضًا أن يقضى يومًا بليلته هناك، فلا أحد يستطيع أن يعيش فى النيل مطلقًا، على الرغم من أنه منبع الحياة، ففى الشتاء البرد القارس لا يحتمل، وفى الصيف شدة الحرارة أيضًا لا تُطاق. "المِصريون" أرادت أن تعيش يومًا كاملاً فى النيل، وأن تقترب من الصياد الذى نشاهده عن بُعد هو وزوجته ونظراتهما لنا تمدنا بالأمل، فمن أين جاءوا بالصبر، ومَن يمدهم بالأمل؟! ذهبنا إلى مِنطقة المنيل؛ حيث كانت تستقر هناك عدة مراكب بأصحابها وهناك جلسنا وتحدثنا. الحاجة أم محمود: أنا قضيت عمرى كله فى البحر وجدت سيدة مسنَّة تجلس فى مركبها الصغيرة، ويحيطها أحفادها ويساعدونها فى صناعة شِبَاك الصيد، وبدا الحزن واضحًا، وهو يملأ عينيها والهم مرسوم على ملامحها، وعندما لمحتنى تغيَّرت نظراتُها، وبدأت تصنع الابتسامة، ورحبت بى دون أن تعرفنى، ثم قالت: تفضَّلِى، وجلست معها بالفعل، وسألتها عن اسمها، فأجابت: أنا أم محمود، عندى ثلاثة أولاد وفتاة، وابنى الكبير متزوج، ولديه من الأبناء ثلاثة، ويعيش معى هنا، أما أولادى الاثنين فمتزوجين ولكنهم عايشين فى البر، أما عن ابنتى فيا لَلْحسرة، فبمجرد أن تزوجت تبرَّأت منى، وأطاعت زوجها، ولم أرَها منذ ما يقرب من العشرة أعوام؛ لأننى عايشة فى هذه المركب، وعلى الرغم من أن هذه المركب هي ما ساعدتنى على تربيتها، ربنا يسامحها، أنا عشت طول عمرى هنا فى البحر، ومش هاسيبه أبدًا، إلا على تُربتى وأخذتْ تبكى وعندما سألتها عن رأيها فى رئيس مصر القادم، قالت: أنا ماعرفش حد فيهم، لا عندى تليفزيون، ولا شُفت حد فيهم جاء هنا، وسألنى عن احتياجاتى، ولو شفت حد فيهم مش هاعرفه، هما مشغولين بأهل البر وناسين أهل البحر، تركتها مع حزنها وذهبت إلى مركب أخرى. إيمان صبحى: نفسى أشوف رئيس مصر هنا ييجى يقعد معانا شوية أما إيمان صبحى والتى تبلغ من العمر 29 عامًا، فقالت: أنا هنا من يوم ما اتولدت وتزوجت صياد مثل أبى وبالنسبة للمهر عندنا هو مركب، فالمركب عندنا هو المهر والشبكة والشقة وكل حاجة، والمركب ثمنها حوالى 2000 جنيه، وهو ده كل اللى بتحتاجه العروسة هنا، وبالنسبة للرئيس أحب أقول له: خُد بالك مننا شوية، إحنا مش بنشحت منك؛ ده حقنا، نِفسى فى شقة أعيش فيها أنا وزوجى وعيالى، وباب يتقفل علينا، إحنا خلاص تعبنا، مفيش رئيس فكر فينا، زى ما فيه أهل بر فى كمان أهل البحر، تركتها مع مطالبتها بأبسط حقوقها وذهبت إلى مركب أخرى. جمال عبد الله: نِفسى فى شهادة ميلاد علشان أعرف أطلع شهادة وفاة! جلست مع أحد الصيادين والذى يُدعى جمال عبد الله، رجل فى العِقد الخامس، وعندما سألته عن عمره، أجاب: والله ما أعرف عمرى كام!، بس أنا عايش بقالى كتيييير قوى، ومش عارف أطلع شهادة ميلاد، ولا معايا أى أوراق، حتى عمرى ما تزوجت، فأنا فاقد قيْد، وليس لدىَّ أى شىء، وعندما سألته عن الرئيس الذى يود انتخابه، التقط طرف الخيط أحد الصيادين، وقال: والله العظيم لو معانا بطاقات كنا انتخبنا الدكتور محمد مرسى؛ علشان ده راجل متدين، وشكله هايحس بينا، ويلتفت لمشاكلنا، إنما أحمد شفيق مش ممكن ننتخبه؛ ففى أحد الأيام جاء إلى هنا مجموعة من الشباب، وسألونا عن المرشح الذى نود أن ننتخبه، فقلنا لهم: محمد مرسى، فأخذ كل شخص منهم يقنع كل فرد فينا بأن ننتخب أحمد شفيق؛ لأنه هو الذى يصلح للبلاد، ووعدونا بأننا إذا ذهبنا معهم فسوف يعطوننا كل ما نطلب، وعندما أخبرناهم بأننا ليس لدينا بطاقات، قالوا لنا بأنهم سوف يصدرون لنا بطاقات، ولكن شرطهم هو أن ننتخب أحمد شفيق، وعندما رفضنا تركونا، وذهبوا، تركتهم مع وعد منى بأن أعود لهم مرة أخرى ومعى رئيس مصر القادم. فايزة زوجة أحد الصيادين: عايزة الدكتور محمد مرسى يطلّعنى من البحر لفتت انتباهى سيدة كانت تقوم بأعمالها المنزلية فى مركبها الصغيرة على أكمل وجه، وجلست معها، وسألتها عن اسمها، فأجابت: اسمى فايزة شعبان، وزوجى اسمه سيد عبد العزيز، أعيش هنا منذ نعومة أظفارى، وكانت العيشة هنا زمان غير دلوقتى، دلوقتى مفيش بركة، وخصوصًا من ساعة الثورة، مش عارفة ليه حاسة إن السمك زعلان مننا!؛ بنقطع فى بعض، وبنقتل بعضنا علشان شوية فلوس، والمناصب ملهاش أى قيمة، عمومًا أحب أقول لكل الناس أنا سيدة بسيطة بطالب بأبسط حقوقى، نِفْسى أخرج من البحر، وأعيش فى البر، نفسى أرتاح من نار الشمس اللى بتحرقنا كل لحظة، ومن برد الشتا اللى بيمرضنا وبيموّتنا، ومفيش حد بيحس بينا، لازم نضحك فى وشوش الناس اللى بتبص علينا من فوق، وبيحيّونا ويسلموا علينا، وبيحسدونا، بس للأسف ماحدش عارف قد إيه إحنا بنتعذب، وبنتقطع من جوانا من كتر الظلم اللى عايشينه، يا أستاذة، الناس بتبص لنا من فوق، وكأننا كائنات أخرى، وعلى الرغم من كل ده أنا انتخبت الدكتور محمد مرسى، وفى الإعادة هاروح أنتخبه مرة تانية لأنى متفائلة بالراجل ده، وحاسة إنه هايحس بينا، ويبص لنا شوية، تركت فايزة مع ثقافتها التى أذهلتنى وذهبت إلى مركب أخرى. هناء زوجة أحد الصيادين: أنا هانتخب الدكتور محمد مرسى ورزقى على الله وجدت سيدة أخرى كانت تحضّر الغداء لزوجها وأطفالها، وعندما لمحتنى قامت واستقبلتنى، ثم قالت: أنا اسمى هناء عبد القادر، وعمرى 35 سنة، وزوجى اسمه أحمد عبد العزيز، كنت أعيش فى المنوفية، وزوجى ابن عمى تزوجنى، وجئت معه إلى هنا، وفى البداية كنت متخيلة أن الحياة هنا مليئة بالمفاجآت السارة، ولكن بعدما عِشت فترة هنا صُدِمت بالمأساة، وهى الذل والإهانة، وفوجئت أيضًا بأننا لسنا فى حسابات المسئولين، ولكننى رضيت بالأمر الواقع؛ لأننى أحب زوجى وأولادى، فأحيانًا يرزقنا الله بكيلو سمك، ويأخذه زوجى ويبيعه فى السوق، وأحيانًا نأكله، ونحمد الله على هذا الرزق، ولا نعترض، وعن انتخابات الرئاسة، قالت: أنا هانتخب الدكتور محمد مرسى ورزقى على الله، يمكن يحس بينا، ويعطينا شقة، أو حتى شهرية؛ لأن البحر مالهوش أمان النهاية: تركت النيل وأهله بعدما احترقت من أشعة الشمس القاسية، وأخذت أتساءل بينى وبين نفسى: لماذا لم يلتفت أى من المرشحين لهؤلاء الصيادين؟، هل لأنهم ليسوا فى قائمة الأولويات لديهم، أم أنهم باتوا لوحة تُعلَّق على الحائط، ونشاهدها من بعيد فقط دون أن يشعر أحد بمأساتهم.