كتب المفكر والأكاديمي الكويتي د. عبد الله النفيسي، متسائلاً: "لماذا (العلماني) العربي يتبرّأ من الإسلام ولماذا (العلماني) الألماني لا يتبرّأ من المسيحية؟ نوّرونا الله ينوّركم". تلقف إسلاميون ما كتبه النفيسي، وأعادوا نشره على صفحاتهم، بمواقع التواصل الاجتماعي!. وأنا على يقين، بأن النفيسي، يعرف جيدًا الإجابة على سؤاله، والفارق بين منزلة الدين ووظيفته عند العلماني الغربي.. وغياب الوظيفة والدور في الوعي "المعلب" والجاهز عند العلماني العربي.. غير أن هذا الفارق الذي يعرفه النفيسي، لا يمكن بحال أن تجده عند الإسلاميين عمومًا. ولكي نشرح هذا الفارق، فلا يجوز التعاطي معه بالجملة، لأن العلمانية الغربية، ليست واحدة: فعلمانية ألمانيا غير علمانية فرنسا، والأولى والثانية تختلفان أيضًا عن علمانية بريطانيا.. هذا على سبيل المثال، غير أن القاسم المشترك بينها، هو أن المسيحية تحولت في أوروبا من "دين" إلى "هوية".. بمعنى: أن العلماني الغربي، لا يوقر المسيحية كدين، ولكنه يدافع عنها بوصفها مكونًا أساسيًا ل"الهوية الوطنية".. الوعي الإسلاموي العربي، لم يدرك هذا التحول، ولذا فإنه فسر تصدي فرنسا ل"الإسلام الرمزي": انتشار الحجاب مثلا، بأنه "حرب دينية" بين ديانتين.. المسيحية والإسلام، وهو تقدير ليس خطأ وحسب وإنما شديد الخطورة، على علاقة الإسلاميين والعالم الإسلامي بالعالم الغربي تحديدًا. انتشار الحجاب في فرنسا، أثار "قلقا ثقافيا" على الهوية الوطنية لفرنسا.. فهي دولة مسيحية، وانتشار الحجاب يخصم منها، وبمضي الوقت، قد يهدد هويتها الثقافية، لم يكن إذن قلق الفرنسيين على المسيحية كدين، ولكن على هويتهم الثقافية، المهددة بتنامي ظاهرة الإسلام الرمزي، من حجاب ومآذن وغيرهما. عندما قالت "أنجيلا ميركل"، إنها لن تسمح بأن تعلو مآذن المساجد، أبراج الكنائس في ألمانيا، فإنها لم تكن تتحدث بنزعة طائفية، أو الانتصار للمسيحية كدين.. وإنما بدافع من قلق حقيقي على الهوية المعمارية لألمانيا المسيحية.. فلكل أمة هوية معمارية.. كما أن لها هوية وطنية. وفي السياق فإن باباوات الكنائس في بعض الدول الإسلامية، حاولوا تغيير الهوية المعمارية لعواصم ولمدن خارجها.. من خلال التوسع الخراساني للكنائس، خاصة في الميادين، التي تتصدر المشهد، أمام أي زائر أجنبي لها.. غير أن هذا المشروع الطموح للباباوات فشل أو انحسر كثيرًا، لأن الأوزان النسبية للطوائف لم تكن لصالحه، فضلا عن أنه كان مشروعا يمثل تهديدا حقيقيا، ليس فقط في إطار "صراع هويات" محتمل قد يفضى إلى الفوضى والتقسيم، وإنما مثل تهديدا على المسيحية الشرقية ذاتها، إذ كان سيحلها في الضمير المسيحي العام، من "دين" إلى "هوية".. ما يقلل من توقيرها، كما حدث في أوروبا عبر قرون عدة. العلماني الغربي، لا يتبرأ من المسيحية، ليس لأنها دين أو "مقدس"، يأمره وينهاه، وإنما لوعيه الشديد بأنها مكون أساسي من هويته الوطنية، والتي لا يقبل المساس بها.