لم تعد ظاهرة "التسول" في ليبيا حكرا على الوافدين من بعض دول الجوار الذين ضاقت بهم سبل العيش في بلدانهم فاتجهوا إليها بحثا عن عمل أو مهنة للتكسب، بعد أن أصبح سوق الفقراء والمتسولين في بلد نفطي، يتنافس عليه ليبيون من مختلف الأعمار، بسبب ارتفاع المعيشة وغلاء الأسعار، مقابل أجور ورواتب ظلت جامدة لا تتزحزح، منذ قرابة "ربع قرن" (1981)، وما عادت قادرة على تلبية أبسط الضروريات. ظاهرة "التسول" هذه باتت مشهدا عاديا، ولم تعد تثير استغراب الليبيين كثيرا، مثلما كان واقع الحال، قبل عقدين أو ثلاثة، ولم يعد مستغربا اليوم أن تجد امرأة أو عجوزا أو شيخا أو رجلا أو حتى شابا يقف أمام مسجد من المساجد، أو مستشفى، أو سوق عام، يمد يده طالبا العون والمساعدة، ولأسباب ومبررات مختلفة، بعضها تعكس حالة أب انهالت عليه الديون من كل حدب وصوب فأثقلت كاهله، ووقف بها عند باب المسجد عاجزا، وبعضها يروي قصة موظف لم يستلم مرتبه منذ شهور طويلة، فتقطعت به السبل، وأخرى تحكي قصة أرملة رحل عنها الزوج وترك خلفه "أفراخا" كأفراخ الحطيئة.. زغب الحواصل لا ماء ولا شجر. ظاهرة التسول هذه عكستها أسباب كثيرة تسللت إلى المجتمع ببطء في عقود ماضية، وباتت اليوم على وشك أن تمزق نسيجه الاجتماعي، وتهدد استقراره، مثل: الفقر، والبطالة، وتدني المرتبات، وغلاء المعيشة، وارتفاع الأسعار. استحقاقات التحول ويعتقد كثيرون أن سياسات التحول التي يقودها رئيس الوزراء الليبي الدكتور شكري غانم من "القطاع العام" إلى "القطاع الخاص"، ألزمت المواطن أن يتحمل جملة من الاستحقاقات الجديدة لملاءمة هذا التحول، وعبئا ثقيلا على كاهله المثقل في الأصل. وعلى رأس قرارات التحول الاقتصادي وتحريره من اقتصاد اشتراكي، إلى اقتصاد حر (رأسمالي) هي رفع الدعم الحكومي عن سلع التموين الأساسية، كالزيت والطماطم والسكر والطحين، ورفع أسعار الكهرباء والماء والوقود بجميع أشكاله. ومن أخطر القرارات التي ستزيد من مأساة المواطن، وتعمق معاناته، كما يرى عدد من المراقبين، قرار حل معظم الشركات والمؤسسات العامة، والتي ظلت مصدر رزق لعشرات الآلاف من الموظفين، في وقت كانت الدولة تحظر فيه جميع أنواع النشاط الفردي، وتؤمم تجارتهم الخاصة، الأمر الذي سيؤدي لا محال إلى تكدس المسرحين في طوابير طويلة من العاطلين، فضلا عن قطع مصدر رزقهم الوحيد. ويبرر غانم اتخاذ مثل هذه السياسات بأن الخزانة العامة أصبحت عاجزة عن تسديد مرتبات ما لا يقل عن 800 ألف موظف، بينهم 400 ألف فقط في مجال التعليم، كما باتت عاجزة تماما عن توفير أي فرص عمل جديدة للأعداد الكبيرة من الخريجين والباحثين. ويرى غانم أن "الحل الحقيقي" لمشكلة زيادة الرواتب يمكن في إزاحة العبء المتمثل في تكدس عدد الموظفين في الجهاز الإداري، والذي يقول إن أكثر من 60 في المائة من إجمالي القوى العاملة في بلاده، يعملون في مؤسسات الدولة، ويتلقون رواتب من خزانتها. غير أن هذه المبررات لم تقنع أغلب المحللين، ولا الشارع الليبي، الذي بات يعرف أن بلاده تنتج ما يقرب عن 2 مليون برميل من النفط يوميا، وأن أسعار النفط تشهد ارتفاعا غير مسبوق، توفر منه الخزينة العامة مليارات الدولارات سنويا (فائض النفط بلغ حسب قول الزعيم الليبي معمر القذافي 7 مليارات لعام 2005)، وأن دولا مجاورة ليس لديها نفط ولا غاز، ومستوى دخل الأفراد فيها ضعف دخل الإنسان الليبي. فضيحة الأكواخ..!! ظاهرة الفقر بلغت حدا لم يعد التكتم عليه يجدي السلطات الليبية التي وجدت نفسها مجبرة وعلى لسان العقيد القذافي بالاعتراف رسميا، وفي أكثر من مناسبة بوجود مليون ليبي فقير، كما أن رئيس الحكومة الدكتور شكري غانم أشار إلى وجود قرابة 180 ألف أسرة تعيش على 100 دينار ليبي (75 دولارا)، الأمر الذي يعني أن خمس سكان ليبيا يعيشون تحت خط الفقر، إلى جانب بطالة بلغت30 في المائة، أي ما لا يقل عن مليون ليبي عاطل عن العمل. وفي برنامج بثته القناة الليبية الرسمية "الجماهيرية" كشفت لأول مرة عن وجود عائلات ليبية تعيش داخل أكواخ من الصفيح والخشب، وفي وضع صعب للغاية، بدون ماء ولا كهرباء، ولمدة تجاوزت بعض حالاتها 10 سنوات. الصور التي عرضتها الفضائية الليبية هزت الشارع، وصدمت كثيرين ممن شاهدوا عجوزا يقترب عمرها من 70 عاما وهي تجلس على درجات منزل مرقع من صفيح وخشب متهالك، هذه الصور اعتبرها عدد من المراقبين "فضيحة"، في دولة تنتج ما يقرب عن 2 مليون برميل يومي من النفط عالي الجودة. دراسة ميدانية وتدور في خلد كثير من المراقبين ممن يرصدون هذا التراجع عن كثب أسئلة محيرة، إذ كيف يمكن لمواطن يتقاضى 75 دولارا أن يحافظ على عملية "الشهيق والزفير" بشكل اعتيادي، وكيف يمكن لموظف يعيش على "دولارين ونصف يوميا" أن يستمر في إعالة أسرة تتكون من 5 أفراد على أقل تقدير؟. للجواب على هذه الأسئلة اختار أحد الباحثين الليبيين عينة من الأسر المكونة من أب وأم وأربعة أبناء، وأجرى دراسته عليها، مفترضا أنها تمتلك مسبقا مسكنا متوسط الأثاث، وسيارة متواضعة الحال. كما افترض أن الأب والأم يعملان في مجال التدريس، وأن مرتبهما هو 400 دينار. فهل سيسد هذا حاجات الأسرة الأساسية؟ يقول الدكتور أيمن سيف النصر في دراسة نشرتها مجلة /أفق/ الاقتصادية مؤخرا: "إن مصاريف هذه الأسرة التي سنفترضها تشترط على الأب مثلا أن يكون رجلا صالحا "لا يدخن، ولا يحتاج إلى أي نفقات زائدة للمقاهي، وأن الأم ليست من الناشطات اجتماعيا (منعزلة)، ولا تزور الناس، ولا تكلف نفسها شراء الهدايا في المناسبات المختلفة التي لا تنتهي، وأن هذه الأسرة لا تمتلك شبابا أو بنات في سن الزواج، وأن الأبناء لا يكلفون آباءهم أي دروس خصوصية، ولا يتنزهون في الأماكن الخاصة ليكلفوا والدهم ثمن الجلوس في المقاهي لا سمح الله، ولا يمارسون رياضات تحتاج إلى اشتراك شهري مثلا، ولا يفكرون في شراء ألعاب إلكترونية أو جهاز كمبيوتر". فهذه الأسرة وفقا لتقديرات الباحث سوف تحتاج الأسرة إلى ما يلي: 12 رغيف خبز يوميا بقيمة 18 دينار ليبي شهريا. كما ستحتاج من 3 إلى 6 بيضات يوميا بقيمة 12 دينارا شهريا، وإلى لتر حليب يوميا أي بقيمة 30 دينار شهريا، كما ستحتاج إلى سكر وزيت وطماطم وشاي ودقيق (طحين) وسميد وأرز، ومكرونة "الوجبة الرئيسية لدى الليبيين" بتكلفة 40 دينارا شهريا. وسوف تحتاج إلى خضار بقيمة 40 دينارا شهريا، وفواكه تقتصر على الموسميات منها فقط 10 دنانير شهريا. (الدولار يعادل 1.3 ديناراً) وحسب رأي الدكتور سيف النصر فإن الأسرة تحتاج إلى نصف كيلواغرام يوميا، من اللحوم أو دجاجة على أقل تقدير (2 إلى 5 دنانير يوميا)، ويستثنى السمك، ولأن هذه الأسرة، حسب رأي الباحث، تتبع حمية معينة فهي لا تتناول اللحوم نصف شهر على أقل تقدير، وبالتالي فهي تحتاج إلى 45 دينارا شهريا. أما مصاريف المنزل كمواد التنظيف التي تتجاوز في أضيق الحدود 30 دينارا شهريا، ومصروف السيارة سوف يكلف شهريا 40 دينارا بين وقود وزيوت، ولن يكون هناك أي أمل في إصلاحها أو صيانتها لو تعطلت، إلى جانب مصروف الكهرباء والماء والهاتف والمقدر ب 30 دينارا شهريا. ناهيك عن مصاريف المدرسة للأبناء من حقائب ومستلزمات مدرسية وقرطاسية، ومصروف يومي، وأجرة باص، أو ركوب عام، والتي تصل إلى ما مجموعه 150 دينارا شهريا. أما بالنسبة للكساء والملابس فقد افترض الباحث أن الأسرة المكونة من 6 أفراد سوف تحتاج إلى كسوتين فقط في السنة، واحدة للصيف، وأخرى للشتاء، وأخرى غير محسوبة "كسوة العيد"، فإنها بحاجة إلى 70 دينارا شهريا، وبالإضافة إلى دواء سلعة وزكام وبرد تحتاج إلى 5 دنانير شهريا. وعلى الرغم من أن الباحث استثنى مصروفات الطوارئ، مثل مرض يستلزم نقلا سريعا إلى إحدى مستشفيات تونس، فإن المحصلة الإجمالية سوف تصل إلى "500 دينار ليبي"، أي أن الأسرة الليبية التي لا يتجاوز متوسط دخلها اليوم 200 دينار، لم تعد قادرة على العيش بأقل من 500 دينار (650 دولاراً). "تعددت المصاريف والإفلاس واحد".. لسان حال أغلب الليبيين الذين تأقلموا مع حياتهم الجديدة، وأصبحوا يتعايشون معها بنكت وطرائف، تقول آخرها إن مذيعا في إحدى الدول المجاورة، اتصل به أحد الليبيين للاشتراك في مسابقة، فسأله المذيع ساخرا: أخبرنا عن أغنى دولة وشعبها أفقر شعب!.