إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ( آل عمران 102 ) { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } ( النساء 1 ) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا . } ( الأحزاب 70 / 71 ) أما بعد ... فهذه مقالة ، كتبتها للرد على الطعنات الموجهة من بعض ممن ينتمون لجلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا ، ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، سخروا أنفسهم للطعن فى الدين ، محاولين رد المسلمين عنه ، وللأسف الشديد ، فقد فتن بهم بعض من لا خلاق لهم ، ولا حظ لهم من العلم الشرعى ، فأحببت أن أبين للمسلمين حقيقة هؤلاء ، وزيف إدعائهم ، وبطلان دعوتهم ، فإن كان من توفيق فمن الله سبحانه وتعالى ، وإن كان من زلل فمنى ومن الشيطان ، والله أسأل أن يجعلها خالصة لوجهة الكريم ، وأن يثيبنى أجرها يوم ألقاه .آمين مقدمة لابد منها أقسام الناس إزاء الشبهات الموجهة للدين : مع تصاعد وتيرة مهاجمة الدين ، وتشكيك المسلمين فى ثوابتهم ، وعلمائهم ، وإشتداد تلك الحملة المسعورة ، التى يريد النابحون بها تنحية الدين من حياة المسلمين ، انقسم الناس إزاءها إلى أربعة أقسام : القسم الأول : العلماء الراسخين الصامدين : الذين يقومون بتفنيد تلك الشبهات والرد عليها ، وبيان عوارها ، وكشف من ورائها من أذناب المستشرقين ، متمثلين قوله تعالى : { هُوَ الَذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } ( آل عمران 7 ) القسم الثانى : المسلمين الصادقين : المحبين لدينهم ، غير الشاكين فيه المقتفين لهدى سلفهم الصالح ، كأبى بكر الصديق حينما أخبره كفار قريش أن النبى صلى الله عليه وسلم { يحدث الناس أن ربه أسرى به إلى بيت المقدس ، وأنه ذهب ليلا ، وعاد ليلا } فقال مقولته الخالدة { إن كان قال فقد صدق } فهؤلاء حينما تأتيهم الشبهة ، يعلمون ويوقنون صدق القرآن والسنة ، ويقولون : إن كان الله قد قال ، { ومن أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } ( النساء 122) ، { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } ( النساء 87 ) ، وإن كان رسوله قد قال فقد صدق ، ولا تنطلى عليهم الشبهة ، ولسان حالهم يقول : { هَ?ذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } ( الأحزاب 22 ) ، ويحملونها على أحد أمرين : إما عدم ثبوتها سندا ، أو تأويلها متنا ، فيرجعون إلى كتب العلم الشرعى ، أو إلى علماء الأمة لكشف زيفها ، وتنبيه الناس إلى حقيقتها ، ليحترسوا من شركها ، فلا يقعوا فيها . القسم الثالث : المسلمين المتشككين : الذين لايصمدون أمام الشبهات ، فيتشككون فى دينهم ، ويطالبون بتنقية الدين مما علق به من شبهات ، فلا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن الرد عليها ، ولا يستمعون لأهل العلم عند تجليتها ، فيريدون إسلاما يتوائم مع حياتهم ، ولا يخضعون حياتهم لتتفق مع الإسلام ، فهؤلاء قال عنهم الحق سبحانه { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى? حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى? وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ، ذَ?لِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } ( الحج 11 ) فتراهم تارة يميلون إلى الصنف الأول – المسلمين الصادقين - ، وتارة يميلون إلى الصنف الأخير – المنافقين - { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَ?لِكَ لَا إِلَى? هَ?ؤُلَاءِ وَلَا إِلَى? هَ?ؤُلَاءِ ، وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } ( النساء 143 ) القسم الرابع : المنافقين المسارعين فى نشر تلك الشبهات : فهؤلاء { َإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } ( الزمر 45 ) فتراهم يهللون لتلك الشبهات ، ويبثونها فى الآفاق ، فيفرحون لوقوع الناس فى شباكهم ، ويحزنون ، ويخنسون إذا تصدى لهم أهل العلم الثقات . فمن أى الناس أنت يا عبد الله ؟ إعرض نفسك على هذه الأصناف الأربعة لتعلم ، فإن كنت من الصنفين الأول ، أو الثانى فهنيئا لك ، وإن كنت من الصنفين الثالث أو الرابع ، فسارع بالتوبة ، وجدد إيمانك ، وفر إلى الله ، ولسان حالك يقول : { {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } ( طه 84 ) منزلة السنة من القرآن الكريم . الرد على الطعن فى السنة النبوية الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى ، وعلى آله وأصحابه الشرفا ، وبعد .... فقد اشتدت وتيرة الحملة الشرسة على سنة النبى صلى الله عليه وسلم ، وعلى حامليها ، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان حتى اليوم ، وزعم القرآنيون الأفاكون ، أنه يجب طرح السنة جانبا ، وعدم التعويل عليها ، والإكتفاء بالقرآن الكريم ففيه الغنية ، مستدلين بقوله تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } ( الأنعام 38 ) وفى هذه المقالة نستعرض - بمشيئة الله تعالى – منزلة السنة من القرآن ، ليعلم القاصى والدانى حاجة المسلمين لسنة النبى الأمين ، فقد بين الأصوليون ، أن منزلة السنة من القرآن الكريم على ثلاث مراتب ، قال محمَّد بنْ حسَيْن بن حَسنْ الجيزاني فى " معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة " : { وباعتبار علاقتها بالقرآن الكريم تنقسم السنة إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول : السنة المؤكدة ، وهي الموافقة للقرآن من كل وجه ، وذلك كوجوب الصلاة فإنه ثابت بالكتاب وبالسنة. القسم الثاني : السنة المبينة أو المفسرة لما أُجمل في القرآن ، وهي ما عبر عنها الشافعي بقوله : " ومنه ما أحكم فرضه بكتابه ، وبين كيف هو على لسان نبيه ، مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها " . القسم الثالث : السنة الاستقلالية ، أو الزائدة على ما في القرآن ، وهي التي تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه ، أو محرمة لما سكت عن تحريمه ، كأحكام الشفعة وميراث الجدة . وهذا القسم عبر عنه الشافعي بقوله : " ومنه ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس فيه نص حكم " } أه . ولتفصيل ذلك نقول :- أولا : السنة المقرِّرة والمؤكِّدة والمؤيدة لما ورد في القرآن الكريم :- القرآن الكريم اشتمل على العقائد ( أركان الإيمان ) وعلى العبادات ( أركان الإسلام ) ، وغيرهما ، فتأتي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقرر ذلك وتؤكده ، والحكمة من ذلك ليعلم الناس أنهما من عند الله سبحانه وتعالى ، فلفظ القرآن ومعناه ، من عند الله ، ومعنى السنة من عند الله ، ولفظها من عند النبى صلى الله عليه وسلم ، فكل ما ينطق به النبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التشريع وحى من الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } ( النجم 3- 4 ) فمثال أركان الإيمان : قوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } ( البقرة : 285 ) وقد قررت وأكدت السنة ذلك ، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : { بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد ، فجاء وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه ثم قال : يا محمد أخبرني عن الإيمان ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره . فقال : صدقت ، فعجبنا له يسأله ويصدقه.. } ( رواه مسلم ) ومثال أركان الإسلام : أ - قوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } ( النساء 19 ) وقد جاءت السنة لتؤيد ذلك وتقرره ، فعن جابر بن عبدالله رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس ، فقال : { اتقوا الله في النساء ، فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف } . ( رواه مسلم ) ب - وقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } ( النساء 29 ) وقد جاءت السنة لتؤيد ذلك وتؤكده ، فعن حنيفة عم أبي حرة الرقاشي رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يَحِلُّ مالُ امرِيءٍ مُسلمٍ إلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنهُ } ( رواه السيوطى فى الجامع الصغير وصححه الألبانى ) ثانيا : السنة المبينة للقرآن :- قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ( النحل 44 ) فقد أنزل الله السنة على نبيه صلى الله عليه وسلم ليبين لأمته ما جاء بالقرآن ، وتنقسم السنة المبينة إلى الأقسام الآتية :- 1- السنة المفصِّلة لما أُجمِل في القرآن :- جاءت السنة النبوية مفصلة ومبيِّنة للأحكام المجملة في آيات عديدة من القرآن الكريم ؛ واللفظ ( المجمل ) هو ما لم تتضح دلالته ، والمراد ما كان له دلالة في الأصل ، ولم تتضح ، ويكون التفصيل ببيان كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه وما أشبه ذلك ؛ كبيانها للصلوات على اختلافها في أنواع مواقيتها ، وركوعها وسجودها وسائر أحكامها ، وبيانها للزكاة في مقاديرها ونُصبِ الأموال وتعيين ما يزكى مما لا يزكى ، وبيان أحكام الصوم وما فيه ، مما لم يقع النص عليه في الكتاب العزيز. ومن أمثلة تفصيل السنة لمجمل القرآن الآتى : أ - قوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } ( البقرة : 43 ) جاء مجملا دون أن يبين عدد الصلوات وأوقاتها وأركانها وواجباتها وسننها ، ولو لم تبين السنة كل ذلك ، لما استطاع مسلم أن يصلى ، أو لصلى كل مسلم على هواه ، فكان لابد من توحيد الأمة فى صلاتها ، فتكفلت السنة ببيان ذلك ، فقد علم جبريل النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة ، وعلمها النبى صلى الله عليه وسلم لأمته ، فعن مالك بن الحويرث رضى الله عنه قال : { أتَينا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونحن شَبَبَةٌ مُتَقارِبون، فأقَمْنا عِندَهُ عِشرين يومًا وليلةً ، فظنَّ أنا اشْتَقْنا أهْلَنا ، وسَألَنا عمَّنْ تَرَكْنا في أهْلِنا ، فأخبَرناه ، وكان رَقيقًا رَحيمًا ، فقال : ( ارْجِعوا إلى أَهلِيكم ، فعَلِّموهم ومُروهم ، وصَلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي ، وإذا حضرَتِ الصلاةُ ، فلْيُؤَذِّنْ لكم أحَدُكم ، و لْيَؤُمَّكم أكبَرُكم } ( رواه البخارى ) ب - قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } ( آل عمران 97 ) فالآية جاءت مجملة دون تفصيل أركان وواجبات وسنن الحج ، ولو لم تبين السنة ذلك ، لتفرقت الأمة فى الإتيان بهذا النسك العظيم ، كل يأتى به على ما يشتهيه ، فتكفلت السنة ببيان ذلك ، فقد علم جبريل النبى صلى الله عليه وسلم الحج ، وعلمه النبى لأمته ، فعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه } ( رواه مسلم ) 2- السنة المخصصة لعام القرآن :- جاءت السنة النبوية مخصصة ومقيدة للأحكام العامة في آيات عديدة من القرآن الكريم ، والمقصود باللفظ العام : هو اللفظ المستغرِقُ لما يصلح له ، أي يستغرق جميع الأفراد التي يصدق عليها معناه ، من غير حصر كمّي ولا عددي . وصيغة الألفاظ العربية التي تفيد الشمول والاستغراق والعموم كثيرة ، نذكر منها : ألفاظ ( كل ) ، و( جميع ) ، و( كافة ) ، والمعرف ب ( أل ) التي ليست للعهد ، والنكرة في سياق النفي ، أو النهي ، و( الذي ) و( التي ) وفروعهما ، وأسماء الشرط، والمضاف إلى جمع ، والمفرد المضاف . ولا خلاف بين العلماء أن السنة إذا كانت متواترة يجوز تخصيص القرآن بها ، وأما إذا كانت السنة من أخبار الآحاد فمذهب الأئمة الأربعة إلى جوازه ، وهو المختار عند العلماء المحققين ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } ( النساء : 11 ) فقد تم تخصيصه ، بما رواه أبو هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يرث القاتل } ( رواه الترمذي وصححه الألبانى ) ، وما رواه أسامة بن زيد رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر } ( متفق عليه ) فهذان الحديثان يحرِمان القاتل وغير المسلم ( الكافر ، والمرتد ) من الميراث ، فلو لم تخصص السنة عموم الآية ، لتفشى القتل بين المسلمين ، فهذا يقتل أباه إستعجالا للإرث ، ثم يطالب بحقه فى تركة أبيه محتجا بقوله تعالى { يوصيكم الله فى أولادكم } وهو من أولاد المورث ، وعدم نص القرآن على حرمان القاتل من الإرث ، أو غير المسلم من الإرث ، فجاءت السنة لتحرم القاتل من الإرث وتسد عليه ذلك الباب ، وتحرمه من الإرث عقابا له بنقيض مقصوده ، فمن استعجل الشىء قبل أوانه عوقب بحرمانه ، كما حرمت الكافر ( الأصلى أو المرتد ) من إرث المسلم ، والعكس . 3- السنة المقيدة لمطلق القرآن الكريم :- جاءت السنة النبوية مفصِّلة وموضحة لآيات عديدة من القرآن الكريم ؛ ومن ذلك تقييد بعض مطلق القرآن ، واللفظ ( المطلق ) هو ما دَلَّ على شائع في جنسه ، أو هو اللفظ الدال على فرد أو أفراد غير معينة ، ودون أي قيد لفظي ، مثل : رجل ، ورجال ، وكتاب ، ورقبة ، وهو ورود النكرة في صيغة الإثبات ، ومن أمثلة ذلك : قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } ( النساء : 11 ) فلفظ الوصية الوارد في الآية مطلق غير مقيد بمقدار معين ، فلو تم الإكتفاء بالقرآن ، لوصى المسلم بكل ماله ، بما يعود بالضرر على ورثته ، ولدعوا عليه بدلا من أن يدعوا له ، إمتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم { وولد صالح يدعو له } ( رواه الترمذى وصححه الألبانى ) فجاءت السنة لترفع عنهم هذا الضرر ، فبينت السنة النبوية أن مقدار الوصية هو الثلث أو أقل ، فلا يجوز إخراج الوصية بأكثر من ثلث المال الذي تركه الميت ، فعن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال : { عادني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ . في حجةِ الوداعِ ، من وجعٍ أشفيتُ منهُ على الموتِ . فقلتُ : يا رسولَ اللهِ ! بلغني ما ترى من الوجعِ . وأنا ذو مالٍ . ولا يرثني إلا ابنةٌ لي واحدةٌ . أفأتصدقُ بثلثيْ مالي ؟ قال ( لا ) قلتُ : أفأتصدقُ بشطرِه ؟ قال ( لا . الثلثُ . والثلثُ كثيرٌ . إنك إن تذَرَ ورثتكَ أغنياءَ ، خيرٌ من أن تذَرَهم عالةً يتكففون الناسَ . ولستَ تنفقُ نفقةً تبتغي بها وجهَ اللهِ ، إلا أُجِرْتَ بها . حتى اللقمةَ تجعلُها في فِي امرأتِكَ ) . قال : قلتُ : يا رسولَ اللهِ ! أُخَلَّفُ بعدَ أصحابي ؟ قال ( إنك لن تُخَلَّفَ فتعملَ عملًا تبتغي بهِ وجهَ اللهِ ، إلا ازددتَ بهِ درجةً ورفعةً . ولعلك تُخَلَّفُ حتى ينفعَ بك أقوامٌ ويُضَرَّ بكَ آخرون . اللهم ! أمضِ لأصحابي هجرتهم . ولا ترُدَّهم على أعقابهم . لكنَّ البائسَ سعدَ بنَ خولةَ ) . قال : رَثَى لهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من أن توفى بمكةَ . وفي روايةٍ : ولم يذكر قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في سعدِ بنِ خولةَ . غيرَ أنَّهُ قال : وكان يكرَه أن يموتَ بالأرضِ التي هاجرَ منها . } ( رواه مسلم ) 4- السنة الموضحة لمشكل القرآن :- جاءت السنة النبوية مُوضِّحة لمُشكل القرآن، ومفسرة لآيات عديدة منه ، واللفظ ( المشكل ) هو : " اللفظ الذي خفيت دلالته على معناه ، لسبب في نفس اللفظ " ، فلا يمكن أن يدرك معناه إلا بقرينة تبين المراد منه ، وإنما يعرف المُشكل بسؤال الصحابة عنه ؛ لأن السؤال لا يقع إلا بعد استشكال أو عدم وضوح في الغالب. ومن أمثلة ذلك : توضيح المراد من الخيط الأبيض والخيط الأسود في وقت الإمساك في الصوم ، قال تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ } ( البقرة : 187 ) ، حيث إن الخيط الأبيض والخيط الأسود من المشكل الذى لا يُفهم المراد منه إلا بقرينة ، ولو لم توضحه السنة لحار الناس فى معنى ذلك ، والمقصود منه ولبطل صوم الكثير منهم ، فجاءت السنة بتوضيح هذا المشكل بأنه (بياض النهار وسواد الليل) ، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : { لما نزلت تلك الآية قلت : يا رسول الله إني أجعل تحت وسادتي عقالين عقالاً أبيض وعقالاً أسود ، أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن وسادك لعريض ، إنما هو سواد الليل وبياض النهار) ( متفق عليه ) وهذا لفظ مسلم ، وفي لفظ البخاري : {عمدتُ إلى عقال أسود ، وعقال أبيض ، فجعلتهما تحت وسادتي ، فجعلت أنظر في الليل ، فلا يستبين لي ، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له ، فقال : ( إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار ) . 5- السنة الناسخة للقرآن :- وهذا الوجه من وجوه يصح عند القائلين بأن السنة والقرآن في المرتبة سواء ، ويمكن للسنة أن تنسخ القرآن . وهذا مذهب الحنفية والمالكية وابن حزم ، أما الشافعية فلا يمكن للسنة أن تنسخ القرآن عندهم ، { يراجع البحر المحيط للزركشى } ومن أمثلة ذلك : قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } البقرة 180 ) فقد نسخت الوصية للوالدين بآيات المواريث ، و نسخت السنة الوصية للوارث فعن أبى أمامة الباهلى رضى الله عنه قال : { سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يقولُ في خُطبتِهِ عامَ حجَّةِ الوداعِ إنَّ اللَّهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصيَّةَ لوارثٍ } ( رواه إبن ماجه وصححه الألبانى ) فلو لم تنسخ السنة الوصية لوارث ، لدب الشقاق بين الورثة ، وفشا فيهم الغل والحقد ، وقطع الأرحام المنهى عنه بقوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } ( محمد 22 ) فهذا يوصى لإبنته بشىء من التركة ، وتشارك إخوانها وأخواتها فى الإرث بما يجعل نصيبها من التركة أكبر بكثير منهم ، فتثور المشكلات ، وتقطع الأرحام ، فجاءت السنة لتئد تلك الفتن فى مهدها بمنع الوصية للوارث . ثالثا : السنة النبوية المستقلة بتشريع الأحكام :- قال الشوكانى – رحمه الله – فى " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول " : { اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام ، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام } أه . فقد أوجب الله على المسلمين إتباع النبى صلى الله عليه وسلم فى كل ما جاء به فقال تعالى : { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ( الحشر 7 ) وعموم الآية يشمل كل ما أتى به من قرآن ، وسنة فمن العجب العجاب ، أن ترى مسلما يصدق النبى صلى الله عليه وسلم ، ويؤمن بأنه مرسل من ربه ، فيصدقه فيما جاء به من القرآن ، فيقبله ، ويكذبه فيما جاء به من السنة ، فيردها ، ورده لها ينقض تصديقه للنبى وإيمانه برسالته ، وقد حذر النبى صلى الله عليه وسلم من سلوك هذا المسلك ، فعن المقدام بن معد يكرب الكندي رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ألا إنِّي أوتيتُ الكتابَ ومثلَهُ معهُ ، ألا يُوشِكُ رجُلٌ شبعانٌ على أريكتِهِ يقولُ عليكُم بِهذَا القُرآنِ فما وجدتُم فيهِ مِن حَلالٍ فأحلُّوه وما وَجدتُم فيهِ مِن حرامٍ فحرِّمُوه ، ألا لا يحلُّ لكُم لحمُ الحِمارِ الأهليِّ ، ولا كلِّ ذي نابٍ من السَّبُعٍ ، ولا لُقَطةِ معاهَدٍ ، إلَّا أن يستَغني عَنها صاحبُها ، ومَن نزل بقومٍ فعليهِم أن يُقْرُوه ، فإن لَم يُقْرُوه فله أن يُعْقِبَهُمْ بمثلِ قِرَاه } ( رواه أبو داود وصححه الألبانى ) فوجب الأخذ بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد شرعت السنة العديد من التشريعات الدائرة مع الأحكام الخمسة ، ومن أمثلة ذلك : 1- الوجوب :- عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه : { أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فرض زكاةَ الفطرِ من رمضانَ على كلِّ نفسٍ من المسلِمين ، حرٍّ أو عبدٍ . أو رجلٍ أو امرأةٍ . صغيرٍ أو كبيرٍ . صاعًا من تمرٍ أو صاعًا من شعيرٍ .} ( رواه مسلم ) فلولا السنة ، لما أخرج المسلمون زكاة الفطر من رمضان ، ولما وجد الفقراء من يغنيهم عن السؤال فى يوم العيد ، إلا من رحم الله ، فجاءت السنة لتسد خلتهم فى هذا اليوم . 2- الحرمة :- أ – عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال : { نهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن كلِّ ذي نابٍ من السِّباعِ . وعن كلِّ ذي مِخلَبٍ من الطيرِ } ( رواه مسلم ) فلو لم تحرم السنة ذلك لاستحل الناس أكل الكلاب ، فلا يوجد فى القرآن ما يحرم أكلها ، والغريب والعجيب أن من ينكر السنة يستنكف عن أكل الكلاب ، لا لحرمتها وإنما لضررها الذى أثبته الأطباء ، فيجعل قول الأطباء مقدما على قول من لا ينطق عن الهوى . ب - عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : { نهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن تُنكحَ المرأةُ على عمَّتِها أو خالتِها . أو أن تسألَ المرأةُ طلاقَ أختِها لِتكتفيءَ ما في صَحْفتِها فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ رازقُها .} ( رواه مسلم ) ولولا هذا الحديث لاستحل الناس الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، لعدم تحريم القرآن ذلك ، ولتقطعت الأرحام ، ووقع الخصام بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، فجاءت السنة لتمنع هذا الخصام ، وتقطع هذا الطريق ، فحرمت ذلك . 3- الإستحباب :- عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لولا أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لَأَمَرْتُهم بالسواكِ مَعَ كُلِّ وضوءٍ .} ( رواه إبن خزيمة وصححه الألبانى ) وفى رواية { لَولا أن أشقَّ علَى أمَّتي لأمرتُهم بالسِّواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ } ( رواه النسائى وصححه الألبانى ) 4- الكراهة :- عَن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو قالَ : { نَهَى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: يومَ خيبرَ عن لحومِ الحمرِ الأَهْليَّةِ، وعنِ الجلَّالةِ ، عن رُكوبِها وأَكْلِ لَحمِها } ( رواه أبو داود وصححه الألبانى ) وفى رواية { نَهى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ عن أَكلِ الجلَّالةِ وألبانِها } ( رواه الترمذى وصححه الألبانى ) قال الشيخ إبن العثيمين – رحمه الله – فى " شرح رياض الصالحين " : { الجلالة هي التي تأكل الجلة أي العذرة يعني تأكل نجاسة الآدمي وروث الحمير وما أشبه ذلك والعادة أنها إذا كانت تأكل هذا أن يتلوث شيء من بدنها أو قدمها أو ما أشبه ذلك فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ركوبها وكذلك أكل لحمها ينهي عنه لو كانت دجاجة مخلاة تأكل العذرة والنجاسات وتتغذى بها فإنها تكون جلالة ويكره أكل لحمها إما كراهة تنزيه أو كراهة تحريم وأما إذا كانت تأكل الطيب والقبيح وأكثر علفها الطيب فإنها ليست جلالة بل هي مباحة ،ولا بأس ، ومن هذا ما يفعله بعض أرباب الدواجن يعطونها من الدم المسفوح لكنه ليس أكثر غذائها بل أكثر غذائها الطيب إلا أنهم يعطونها هذا من أجل تقويتها أو تنميتها فلا تحرم بهذا ولا تكره لأنه إذا كان الأكثر هو الطيب فالحكم للأكثر هذه هي الجلالة فالنهي فيها عن الركوب للتنزيه وأما عن الأكل فهو إما كراهة تنزيه وإما كراهة تحريم على خلاف بين العلماء في ذلك ولكن بشرط أن يكون أكثر علفها الشيء النجس أما إذا كان أقل من الطيب فلا بأس بها } أه . فلو لم تأت السنة بذلك الحكم لركب الناس الجلالة وأكلوا لحمها وشربوا لبنها ، فليس فى القرآن ما ينهى عن ذلك ، ولو قيل لمن ينكر السنة : كل من الجلالة ، واشرب لبنها ، لتوقف عن الأكل ، والشرب ، وعافت نفسه ، متعللا بأن العلماء قد أكدوا ضررها ، فيتبع العلماء ، وهم بشر يصيبون ، ويخطئون ، ويترك إتباع النبى صلى الله عليه وسلم الذى لا ينطق عن الهوى !! 5- الإباحة :- عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أحلَّت لَكُم ميتتانِ ودَمانِ ، فأمَّا الميتَتانِ ، فالحوتُ والجرادُ ، وأمَّا الدَّمانِ ، فالكبِدُ والطِّحالُ } ( رواه إبن ماجه وصححه الألبانى ) فلو لم تأت السنة بهذا الحكم لما علم الناس حل أكل الجراد ، والكبد والطحال . وأخيرا فعلى كل مسلم أن يحرص على سنة نبيه ، فيتمسك بها ويعمل بما جاء بها ، ويجتهد أن يعلمها غيره قدر طاقته ، ولا يتبع المضلين الذين يريدون أن ينحوا السنة جانبا . والله الموفق . ** نائب رئيس هيئة قضايا الدولة والكاتب بمجلة التوحيد